فصل: كتاب الرَّضَاعِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ***


الجزء الرابع

كتاب الرَّضَاعِ

قد ذَكَرْنَا في كتاب النِّكَاحِ أَنَّ الْمُحَرَّمَاتِ نِكَاحًا على التَّأْبِيدِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ مُحَرَّمَاتٌ بِالْقَرَابَةِ وَمُحَرَّمَاتٌ بِالصِّهْرِيَّةِ وَمُحَرَّمَاتٌ بِالرَّضَاعِ وقد بَيَّنَّا الْمُحَرَّمَاتِ بِالْقَرَابَةِ وَالصِّهْرِيَّةِ في كتاب النِّكَاحِ وَهَذَا الْكتاب وُضِعَ لِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعِ وَالْكَلَامُ في هذا الْكتاب يَقَعُ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالرَّضَاعِ وَالثَّانِي في بَيَانِ صِفَةِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ وَالثَّالِثُ في بَيَانِ ما يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ‏.‏

فصل َالْأَصْل أَنَّ كُلَّ من يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ

أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ من يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ من الْفِرَقِ السَّبْعِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللَّهُ عز وجل في كتابهِ الْكَرِيمِ نَصًّا أو دَلَالَةً على ما ذَكَرْنَا في كتاب النِّكَاحِ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعَةِ إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ في جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ مُتَّفَقٌ عليها وفي جَانِبِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ مُخْتَلَفٌ فيها أَمَّا تَفْسِيرُ الْحُرْمَةِ في جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ فَهُوَ إن الْمُرْضِعَةَ تَحْرُمُ على الْمُرْضَعِ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمًّا له بِالرَّضَاعِ فَتَحْرُمُ عليه لِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ‏}‏ مَعْطُوفًا على قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ‏}‏ فَسَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُرْضِعَةَ أُمَّ الْمُرْضَعِ وَحَرَّمَهَا عليه وَكَذَا بَنَاتُهَا يَحْرُمْنَ عليه سَوَاءٌ كُنَّ من صَاحِبِ اللَّبَنِ أو من غَيْرِ صَاحِبِ اللَّبَنِ من تَقَدَّمَ مِنْهُنَّ وَمَنْ تَأَخَّرَ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتُهُ من الرَّضَاعَةِ وقد قال اللَّهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَخَوَاتُكُمْ من الرَّضَاعَةِ‏}‏ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى الْأُخُوَّةَ بين بَنَاتِ الْمُرْضِعَةِ وَبَيْنَ الْمُرْضَعِ وَالْحُرْمَةَ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا من غَيْرِ فصل بين أُخْتٍ وَأُخْتٍ وَكَذَا بَنَاتُ بَنَاتِهَا وَبَنَاتُ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ أَخِ الْمُرْضَعِ وَأُخْتُهُ من الرَّضَاعَةِ وَهُنَّ يَحْرُمْنَ من النَّسَبِ كَذَا من الرَّضَاعَةِ وَلَوْ أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ صَغِيرَيْنِ من أَوْلَادِ الْأَجَانِبِ صَارَا أَخَوَيْنِ لِكَوْنِهِمَا من أَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ فَلَا يَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمَا إذَا كان أَحَدُهُمَا أُنْثَى وَالْأَصْلُ في ذلك أَنَّ كُلَّ اثْنَيْنِ اجْتَمَعَا على ثَدْيٍ وَاحِدٍ صَارَا أَخَوَيْنِ أو أُخْتَيْنِ أو أَخًا وَأُخْتًا من الرَّضَاعَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِالْآخَرِ وَلَا بِوَلَدِهِ كما في النَّسَبِ وَأُمَّهَاتُ الْمُرْضِعَةِ يَحْرُمْنَ على الْمُرْضَعِ لِأَنَّهُنَّ جَدَّاتُهُ من قِبَلِ أُمِّهِ من الرَّضَاعَةِ وَآبَاءُ الْمُرْضِعَةِ أَجْدَادُ الْمُرْضَعِ من الرَّضَاعَةِ فَيَحْرُمُ عليهم كما في النَّسَبِ وَأَخَوَاتُ الْمُرْضِعَةِ يَحْرُمْنَ على الْمُرْضَعِ لِأَنَّهُنَّ خَالَاتُهُ من الرَّضَاعَةِ وأخواتها ‏[‏وإخوتها‏]‏ أَخْوَالُ الْمُرْضَعِ فَيَحْرُمُ عليهم كما في النَّسَبِ فَأَمَّا بَنَاتُ أخوة الْمُرْضِعَةِ وَأَخَوَاتُهَا فَلَا يَحْرُمْنَ على الْمُرْضَعِ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ أَخْوَالِهِ وَخَالَاتِهِ من الرَّضَاعَةِ وإنهن لَا يَحْرُمْنَ من النَّسَبِ فَكَذَا من الرَّضَاعَةِ وَتَحْرُمُ الْمُرْضِعَةُ على أَبْنَاءِ الْمُرْضَعِ وَأَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا كما في النَّسَبِ هذا تَفْسِيرُ الْحُرْمَةِ في جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ‏.‏

وَالْأَصْلُ في هذه الْجُمْلَةِ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ يَحْرُمُ من الرَّضَاعِ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِعُمُومِهِ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وَأَمَّا الْحُرْمَةُ في جَانِبِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ التي نَزَلَ لها منه لَبَنٌ فَثَبَتَتْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عن رَافِعٍ بن خَدِيجٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا تَثْبُتُ وهو قَوْلُ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءِ بن يَسَارٍ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَمَالِكٍ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُلَقَّبَةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِلَبَنِ الْفَحْلِ أَنَّهُ هل يُحَرِّمُ أو لَا وَتَفْسِيرُ تَحْرِيمِ لَبَنِ الْفَحْلِ أَنَّ الْمُرْضَعَةَ تَحْرُمُ على زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ لِأَنَّهَا بِنْتُهُ من الرَّضَاعِ وَكَذَا على أَبْنَائِهِ الَّذِينَ من غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ لِأَنَّهُمْ أخوتها لِأَبٍ من الرَّضَاعَةِ وَكَذَا على أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَأَبْنَاءِ بَنَاتِهِ من غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ لِأَنَّهُمْ أَبْنَاءُ إخْوَةِ الْمُرْضِعَةِ وَأَخَوَاتُهَا لِأَبٍ من الرَّضَاعَةِ‏.‏

وَعَلَى هذا إذَا كان لِرَجُلٍ امْرَأَتَانِ فَحَمَلَتَا منه وَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَغِيرًا أَجْنَبِيًّا فَقَدْ صَارَا أَخَوَيْنِ لِأَبٍ من الرَّضَاعَةِ فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أُنْثَى فَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الزَّوْجَ أَخُوهَا لِأَبِيهَا من الرَّضَاعَةِ وَإِنْ كَانَا انثيين لَا يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا أُخْتَانِ لِأَبٍ من الرَّضَاعَةِ وَتَحْرُمُ على آبَاءِ زَوْجِ الْمُرْضِعَةِ لِأَنَّهُمْ أَجْدَادُهَا من قِبَلِ الْأَبِ من الرَّضَاعَةِ وَكَذَا على إخْوَتِهِ لِأَنَّهُمْ أَعْمَامُهَا من الرَّضَاعَةِ وإخواته عَمَّاتُ الْمُرْضَعِ فَيَحْرُمْنَ عليه وَأَمَّا أَوْلَادُ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ فَلَا تَحْرُمُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَيَجُوزُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمْ في النَّسَبِ فَيَجُوزُ في الرَّضَاعِ هذا تَفْسِيرُ لَبَنِ الْفَحْلِ احْتَجَّ من قال أنه لَا يُحَرِّمُ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل بَيَّنَ الْحُرْمَةَ في جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ ولم يُبَيِّنْ في جَانِبِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ‏}‏ وَلَوْ كانت الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً في جَانِبِهِ لَبَيَّنَهَا كما بَيَّنَ في النَّسَبِ بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ‏}‏ وَلِأَنَّ الْمُحَرِّمَ هو الْإِرْضَاعُ وأنه وُجِدَ منها لَا منه فَصَارَتْ بِنْتًا لها لَا له‏.‏

وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو نَزَلَ لِلزَّوْجِ لَبَنٌ فَارْتَضَعَتْ منه صَغِيرَةٌ لم تَحْرُمْ عليه فإذا لم تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ بِلَبَنِهِ فَكَيْف تَثْبُتُ بِلَبَنِ غَيْرِهِ وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَحْرُمُ من الرَّضَاعِ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ وروي ‏[‏روي‏]‏ أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها قالت جاء عَمِّي من الرَّضَاعَةِ فَاسْتَأْذَنَ عَلَيَّ فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ له حتى استأذن رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عن ذلك فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «إنَّمَا هو عَمُّكِ فَأْذَنِي له فَقُلْت يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ ولم يُرْضِعْنِي الرَّجُلُ فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إنَّهُ عَمُّك فَلْيَلِجْ عَلَيْك قالت عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها وكان ذلك بَعْدَ أَنْ ضُرِبَ عَلَيْنَا الحجاب أي بَعْدَ أَمْرِ اللَّهِ عز وجل النِّسَاءَ بِالْحِجَابِ عن الْأَجَانِبِ»‏.‏

وَقِيلَ كان الدَّاخِلُ عليها ‏[‏عليك‏]‏ أَفْلَحَ أَخَا أبي الْقُعَيْسِ وَكَانَتْ امْرَأَةُ أبي الْقُعَيْسِ أَرْضَعَتْهَا وَعَنْ عَمْرَةَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَخْبَرَتْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان عِنْدَهَا وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ في بَيْتِ حَفْصَةَ قالت عَائِشَةُ فَقُلْت يا رَسُولَ اللَّهِ هذا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ في بَيْتِك فقال أُرَاهُ فُلَانًا لِعَمِّ حَفْصَةَ من الرَّضَاعَةِ فَقُلْت يا رَسُولَ اللَّهِ لو كان فُلَانًا حَيًّا لِعَمِّي من الرَّضَاعَةِ أَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ فقال نعم إنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ ما تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا تَنْكِحْ من أَرْضَعَتْهُ امْرَأَةُ أَبِيك وَلَا امْرَأَةُ أَخِيك وَلَا امْرَأَةُ ابْنِك وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ سُئِلَ عن رَجُلٍ له امْرَأَتَانِ أو جَارِيَةٌ وَامْرَأَةٌ فَأَرْضَعَتْ هذه غُلَامًا وَهَذِهِ جَارِيَةً هل يَصْلُحُ لِلْغُلَامِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْجَارِيَةَ فقال رضي اللَّهُ عنه لَا اللِّقَاحُ وَاحِدٌ بَيَّنَ الْحُكْمَ وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى وهو اتِّحَادُ اللِّقَاحِ وَلِأَنَّ الْمُحَرِّمَ هو اللَّبَنُ وَسَبَبُ اللَّبَنِ هو مَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جميعا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا جميعا كما كان الْوَلَدُ لَهُمَا جميعا‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أن اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْحُرْمَةَ في جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ لَا في جَانِبِ زَوْجِهَا فَنَقُولُ إنْ لم يُبَيِّنْهَا نَصًّا فَقَدْ بَيَّنَهَا دَلَالَةً وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيَانَ من اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقَيْنِ بَيَانُ إحَاطَةٍ وَبَيَانُ كِفَايَةٍ فَبَيَّنَ في النَّسَبِ بَيَانَ إحَاطَةٍ وَبَيَّنَ في الرَّضَاعِ بَيَانَ كِفَايَةٍ تَسْلِيطًا لِلْمُجْتَهِدِينَ على الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْمَنْصُوصِ عليه على غَيْرِهِ وهو أَنَّ الْحُرْمَةَ في جَانِبِ الْمُرْضِعَةِ لِمَكَانِ اللَّبَنِ وَسَبَبُ حُصُولِ اللَّبَنِ وَنُزُولِهِ هو مَاؤُهُمَا جميعا فَكَانَ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا جميعا وَهَذَا لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِأَجْلِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ لِأَنَّهُ يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَيُنْشِرُ الْعَظْمَ على ما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ وَلَمَّا كان سَبَبُ حُصُولِ اللَّبَنِ وَنُزُولِهِ مَاءَهُمَا جميعا وَبِارْتِضَاعِ اللَّبَنِ تَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ بِوَاسِطَةِ نَبَاتِ اللَّحْمِ يُقَامُ سَبَبُ الْجُزْئِيَّةِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ في باب الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا وَالسَّبَبُ يُقَامُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ خُصُوصًا في باب الْحُرُمَاتِ أَيْضًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْرُمُ على جَدِّهَا كما تَحْرُمُ على أَبِيهَا وَإِنْ لم يَكُنْ تَحْرِيمُهَا على جَدِّهَا مَنْصُوصًا عليه في الْكتاب الْعَزِيزِ لَكِنْ لَمَّا كان مُبَيَّنًا بَيَانَ كِفَايَةٍ وهو أَنَّ الْبِنْتَ وَإِنْ حَدَثَتْ من مَاءِ الْأَبِ حَقِيقَةً دُونَ مَاءِ الْجَدِّ لَكِنَّ الْجَدَّ سَبَبُ مَاءِ الْأَبِ أُقِيمَ السَّبَبُ مَقَامَ الْمُسَبَّبِ في حَقِّ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا كَذَا هَهُنَا‏.‏

وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لَمَّا لم يذكر الْبَنَاتِ من الرَّضَاعَةِ نَصًّا لم يذكر بَنَاتِ الأخوة وَالْأَخَوَاتِ من الرَّضَاعَةِ نَصًّا وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَخَوَاتِ ثُمَّ ذَكَرَ لِبَنَاتِ الأخوة وَالْأَخَوَاتِ دَلَالَةً حتى حُرِّمْنَ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَهُنَا على أَنَّهُ لم يُبَيِّنْ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ فَقَدْ بَيَّنَ بِوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بِقَوْلِهِ يَحْرُمُ من الرَّضَاعِ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمْ أن الْإِرْضَاعَ وُجِدَ منها لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ وُجِدَ مِنْهُمَا لِأَنَّ سَبَبَ حُصُولِ اللَّبَنِ مَاؤُهُمَا جميعا فَكَانَ الْإِرْضَاعُ مِنْهُمَا جميعا وَأَمَّا الزَّوْجُ إذَا نَزَلَ له لَبَنٌ فَارْتَضَعَتْ صَغِيرَةٌ فَذَاكَ لَا يُسَمَّى رَضَاعًا عُرْفًا وَعَادَةً وَمَعْنَى الرَّضَاعِ أَيْضًا لَا يَحْصُلُ بِهِ وهو إكتفاء الصَّغِيرِ بِهِ في الْغِذَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُغْنِيهِ من جُوعٍ فَصَارَ كَلَبَنِ الشَّاةِ وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

ثُمَّ إنَّمَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ من جَانِبِ الزَّوْجِ إذَا كان لها زَوْجٌ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ لها زَوْجٌ بِأَنْ وَلَدَتْ من الزِّنَا فَنَزَلَ لها لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ بِهِ صَبِيًّا فَالرَّضَاعُ يَكُونُ منها خَاصَّةً لَا من الزَّانِي لِأَنَّ نَسَبَهُ يَثْبُتُ منها لَا من الزَّانِي وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما يَثْبُتُ منه النَّسَبُ يَثْبُتُ منه الرَّضَاعُ وَمَنْ لَا يَثْبُتُ منه النَّسَبُ لَا يَثْبُتُ منه الرَّضَاعُ وَكَذَا الْبِكْرُ إذَا نَزَلَ لها لَبَنٌ وَهِيَ لم تَتَزَوَّجْ قَطُّ فَالرَّضَاعُ يَكُونُ منها خَاصَّةً وَالله الموفق‏.‏

وَكَذَا كُلُّ من يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ من الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ الَّذِينَ وَصَفْنَاهُمْ في كتاب النِّكَاحِ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ فَيَحْرُمُ على الرَّجُلِ أُمُّ زَوْجَتِهِ وَبِنْتُهَا من زَوْجٍ آخَرَ من الرَّضَاعِ كما في النَّسَبِ إلَّا أَنَّ الْأُمَّ تَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ على الْبِنْتِ إذَا كان صَحِيحًا وَالْبِنْتُ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ كما في النَّسَبِ وَكَذَا جَدَّاتُ زَوْجَتِهِ من أَبِيهَا وَأُمِّهَا وَإِنْ عَلَوْنَ أو بَنَاتِ بَنَاتِهَا وَبَنَاتِ أَبْنَائِهَا وَإِنْ سَفَلْنَ من الرَّضَاعِ كما في النَّسَبِ وَكَذَا تَحْرُمُ حَلِيلَةُ ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِ الرَّضَاعِ وَإِنْ سَفَلَ على أَبُ الرَّضَاعِ وَأَبِ أبيه وَإِنْ عَلَا كما في النَّسَبِ وَتَحْرُمُ مَنْكُوحَةُ أَبُ الرَّضَاعِ وَأَبِ أبيه وَإِنْ عَلَا على ابْنِ الرَّضَاعِ وَابْنِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلَ كما في النَّسَبِ وَكَذَا يَحْرُمُ بِالْوَطْءِ أو ‏[‏أم‏]‏ الْمَوْطُوءَةِ وَبِنْتُهَا من الرَّضَاعِ على الواطئ‏.‏ وَكَذَا جَدَّاتُهَا وَبَنَاتُ بَنَاتِهَا كما في النَّسَبِ وَتَحْرُمُ الْمَوْطُوءَةُ على أَبُ الواطئ وَابْنِهِ من الرَّضَاعِ‏.‏

وَكَذَا على أَجْدَادِهِ وَإِنْ عَلَوْا وَعَلَى أَبْنَاءِ أَبْنَائِهِ وَإِنْ سَفَلُوا كما في النَّسَبِ سَوَاءٌ كان الْوَطْءُ حَلَالًا بِأَنْ كان يملك ‏[‏بملك‏]‏ الْيَمِينِ أو الْوَطْءُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أو شُبْهَةِ نِكَاحٍ أو كان بِزِنًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَلَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ في كتاب النِّكَاحِ ثُمَّ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم يَحْرُمُ من الرَّضَاعِ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ مُجْرَى على عُمُومِهِ إلَّا في مَسْأَلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِ ابْنِهِ من النَّسَبِ لِأُمِّهِ وهو أَنْ يَكُونَ لِابْنِهِ أُخْتٌ لِأُمِّهِ من النَّسَبِ من زَوْجٍ آخَرَ كان لها وَيَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ من الرَّضَاعِ وهو أَنْ يَكُونَ لِابْنِهِ من الرَّضَاعِ أُخْتٌ من النَّسَبِ لم تُرْضِعْهَا امْرَأَتُهُ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ في النَّسَبِ كَوْنُ أُمِّ الْأُخْتِ مَوْطُوءَةَ الزَّوْجِ لِأَنَّ أُمَّهَا إذَا كانت مَوْطُوءَةً كانت هِيَ بِنْتَ الْمَوْطُوءَةِ وَإِنَّهَا حَرَامٌ وَهَذَا لم يُوجَدْ في الرَّضَاعِ وَلَوْ وُجِدَ لَا يَجُوزُ كما لَا يَجُوزُ في النَّسَبِ وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ من النَّسَبِ لِأَبِيهِ وهو أَنْ يَكُونَ له أُخْتٌ من أبيه من النَّسَبِ لَا من أُمِّهِ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ هذه الْأُخْتِ َيَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ أُخْتِهِ من الرَّضَاعِ وهو أَنْ يَكُونَ له أُخْتٌ من الرَّضَاعَةِ فَيَتَزَوَّجَ أُمَّهَا من النَّسَبِ لِأَنَّ الْمَانِعَ في النَّسَبِ كَوْنُ الْمُتَزَوِّجَةِ مَوْطُوءَةَ أبيه وَهَذَا لم يُوجَدْ في الرَّضَاعِ حتى لو وُجِدَ لَا يَجُوزُ كما في النَّسَبِ وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أَخِيهِ لِأَبِيهِ من النَّسَبِ وَصُورَتُهُ مَنْكُوحَةُ أبيه إذَا وَلَدَتْ ابْنًا وَلَهَا بِنْتٌ من زَوْجٍ آخَرَ فَهِيَ أُخْتُ أَخِيهِ لِأَبِيهِ فَيَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَكَذَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أُخْتِهِ من الرَّضَاعِ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَيَجُوزُ لِزَوْجِ الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْمُرْضَعِ من النَّسَبِ لِأَنَّ الْمُرْضَعَ ابْنُهُ وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ ابْنِهِ من النَّسَبِ وَكَذَا أَبَ الْمُرْضَعِ من النَّسَبِ يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْضِعَةَ لِأَنَّهَا أُمُّ ابْنِهِ من الرَّضَاعِ فَهِيَ كَأُمِّ ابْنِهِ من النَّسَبِ وَكَذَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَحَارِمِ أبي الصَّبِيِّ من الرَّضَاعَةِ أو النَّسَبِ كما يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُمِّهِ وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

فصل صِفَة الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ

وَأَمَّا صِفَةُ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ فَالرَّضَاعُ الْمُحَرِّمُ ما يَكُونُ في حَاِل الصِّغَرِ فَأَمَّا ما يَكُونُ في حَالِ الْكِبَرِ فَلَا يُحَرِّمُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إلَّا ما رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أَنَّهُ يُحَرِّمُ في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ جميعا وَاحْتَجَّتْ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ من الرَّضَاعَةِ‏}‏ من غَيْرِ فصل بين حَالِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ‏.‏ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِمًا وكان يَدْخُلُ على امْرَأَتِهِ سَهْلَةَ بِنْتِ سهل ‏[‏سهيل‏]‏ فلما نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ أَتَتْ سَهْلَةُ إلَى رسول اللَّهِ وَقَالَتْ يا رَسُولَ اللَّهِ قد كنا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا وكان يَدْخُلُ عَلَيَّ وَلَيْسَ لنا إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَمَاذَا تَرَى في شَأْنِهِ فقال لها رسول اللَّهِ أَرْضِعِيهِ عَشْرَ رَضَعَاتٍ ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وكان سالم ‏[‏سالما‏]‏ كَبِيرًا فَدَلَّ أَنَّ الرَّضَاعَ في حَالِ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ مُحَرِّمٌ وقد عَمِلَتْ عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها بهذا الحديث بَعْدَ وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم حتى رُوِيَ عنها أنها كانت إذَا أَرَادَتْ أَنْ يَدْخُلَ عليها أَحَدٌ من الرِّجَالِ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومِ بِنْتِ أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنها وَبَنَاتِ أَخِيهَا عبد الرحمن بن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه أَنْ يُرْضِعْنَهُ‏.‏

فَدَلَّ عَمَلُهَا بِالْحَدِيثِ بَعْدَ مَوْتِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم على أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دخل يَوْمًا على عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَوَجَدَ عِنْدَهَا رَجُلًا فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رسول اللَّهِ فقال من هذا الرَّجُلُ فقالت عَائِشَةُ هذا عَمِّي من الرَّضَاعَةِ فقال رسول اللَّهِ اُنْظُرْنَ ما أَخَوَاتُكُمْ من الرَّضَاعَةِ إنَّمَا الرَّضَاعَةُ من الْمَجَاعَةِ أَشَارَ إلَى أَنَّ الرَّضَاعَ في الصِّغَرِ هو الْمُحَرِّمُ إذْ هو الذي يَدْفَعُ الْجُوعَ فَأَمَّا جُوعُ الْكَبِيرِ فَلَا يَنْدَفِعُ بِالرَّضَاعِ‏.‏

وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال‏:‏ «الرَّضَاعُ ما أَنْبَتَ اللَّحْمَ وأنشر ‏[‏وأنشز‏]‏ الْعَظْمَ» وَذَلِكَ هو رَضَاعُ الصَّغِيرِ دُونَ الْكَبِيرِ لِأَنَّ ارضاعه لَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَلَا ينشر ‏[‏ينشز‏]‏ الْعَظْمَ‏.‏ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال الرَّضَاعُ ما فَتَقَ الْأَمْعَاءَ وَرَضَاعُ الصَّغِيرِ هو الذي يَفْتُقُ الإمعاء لَا رَضَاعُ الْكَبِيرِ لِأَنَّ إمعاء الصَّغِيرِ تَكُونُ ضَيِّقَةً لَا يَفْتُقُهَا إلَّا اللَّبَنُ لِكَوْنِهِ من أَلْطَفِ الْأَغْذِيَةِ كما وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتابهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ‏}‏ فَأَمَّا أَمْعَاءُ الْكَبِيرِ فمنفتقته ‏[‏فمنفتقة‏]‏ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْفَتْقِ بِاللَّبَنِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا من أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا فَمَاتَ وَلَدُهَا فَوَرِمَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَمُصُّهُ وَيَمُجُّهُ فَدَخَلَتْ جَرْعَةٌ منه حَلْقَهُ فَسَأَلَ عنه أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رضي اللَّهُ عنه قال قد حُرِّمَتْ عَلَيْكَ ثُمَّ جاء إلَى عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه فَسَأَلَهُ فقال هل سَأَلْت أَحَدًا فقال نعم سَأَلْت أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ فقال حُرِّمَتْ عَلَيْك فَجَاءَ ابن مَسْعُودٍ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ رضي اللَّهُ عنهما فقال له أَمَا عَلِمْت أَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ من الرَّضَاعِ ما أَنْبَتَ اللَّحْمَ فقال أبو مُوسَى لَا تَسْأَلُونِي عن شَيْءٍ ما دَامَ هذا الْحَبْرُ بين أَظْهُرِكُمْ‏.‏

وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فقال كانت لي وَلِيدَةٌ أَطَؤُهَا فَعَمَدَتْ امْرَأَتِي إلَيْهَا فَأَرْضَعَتْهَا فَدَخَلْت عليها فقالت دُونَكَ مَقْدُورُ اللَّهِ أَرْضَعْتهَا فقال عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وَاقِعْهَا فَهِيَ جَارِيَتُك فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ عِنْدَ الصِّغَرِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنْ ليس الْمُرَادُ من الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رضاع ‏[‏رضاعة‏]‏ الْكَبِيرِ لِأَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَسَّرَ الرَّضَاعَ الْمُحَرِّمَ بِكَوْنِهِ دَافِعًا لِلْجُوعِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ منشرا ‏[‏منشزا‏]‏ لِلْعَظْمِ فَاتِقًا لِلْأَمْعَاءِ وَهَذَا وَصْفُ رَضَاعِ الصَّغِيرِ لَا الْكَبِيرِ فَصَارَتْ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً لِمَا في الْكتاب أَصْلُهُ‏.‏

وَأَمَّا حَدِيثُ سَالِمٍ فَالْجَوَابُ عن التَّعَلُّقِ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ كان مَخْصُوصًا بِذَلِكَ يَدُلُّ عليه ما رُوِيَ أَنَّ سَائِرَ أَزْوَاجِ رسول اللَّهِ أَبَيْنَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ بِالرَّضَاعِ في حَالِ الْكِبَرِ أَحَدٌ من الرِّجَالِ وَقُلْنَ ما نَرَى الذي أَمَرَ بِهِ رسول اللَّهِ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ إلَّا رُخْصَةً في سَالِمٍ وَحْدَهُ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ سَالِمًا كان مَخْصُوصًا بِذَلِكَ وما كان من خُصُوصِيَّةِ بَعْضِ الناس لِمَعْنًى لَا نَعْقِلُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِيَاسَ وَلَا نَتْرُكُ بِهِ الْأَصْلَ الْمُقَرَّرَ في الشَّرْعِ وَالثَّانِي أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ كان مُحَرِّمًا ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا بِمَا رَوَيْنَا من الْأَخْبَارِ‏.‏

وَأَمَّا عَمَلُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَقَدْ رُوِيَ عنها ما يَدُلُّ على رُجُوعِهَا فإنه رُوِيَ عنها أنها قالت لَا يُحَرِّمُ من الرَّضَاعِ إلَّا ما أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَالدَّمَ وَرُوِيَ أنها كانت تَأْمُرُ بِنْتَ أَخِيهَا عبد الرحمن بن أبي بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنهم أَنْ تُرْضِعَ الصِّبْيَانَ حتى يَدْخُلُوا عليها إذَا صَارُوا رِجَالًا على أَنَّ عَمَلَهَا مُعَارَضٌ بِعَمَلِ سَائِرِ أَزْوَاجِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنَّهُنَّ كُنَّ لَا يَرَيْنَ أَنْ يدخل ‏[‏يدخلن‏]‏ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدٌ من الرِّجَالِ وَالْمُعَارَضُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وإذا ثَبَتَ أَنَّ رَضَاعَ الْكَبِيرِ لَا يُحَرِّمُ وَرَضَاعَ الصَّغِيرِ يحرم ‏[‏محرم‏]‏ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ في حُكْمِ الرَّضَاعِ وهو بَيَانُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ‏.‏

وقد اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ ثَلَاثُونَ شَهْرًا وَلَا يُحَرِّمُ بَعْدَ ذلك سَوَاءٌ فُطِمَ أو لم يُفْطَمْ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَوْلَانِ لَا يُحَرِّمُ بَعْدَ ذلك فُطِمَ أو لم يُفْطَمْ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وقال زُفَرُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ وقال بَعْضُهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وقال بَعْضُهُمْ أَرْبَعُونَ سَنَةً احْتَجَّ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ‏}‏ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَوْلَيْنِ الْكَامِلَيْنِ تَمَامَ مُدَّةِ الرَّضَاعِ وَلَيْسَ وَرَاءَ التَّمَامِ شَيْءٌ وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَفِصَالُهُ في عَامَيْنِ‏}‏‏.‏

وَقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا‏}‏ وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَبَقِيَ مُدَّةُ الْفِصَالِ حَوْلَيْنِ وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال‏:‏ «لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ» وَهَذَا نَصُّ في الْباب‏.‏ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ من الرَّضَاعَةِ‏}‏ أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ مُطْلَقًا عن التَّعَرُّضِ لِزَمَانِ الْإِرْضَاعِ إلَّا أَنَّهُ قام ‏[‏أقام‏]‏ الدَّلِيلُ على أَنَّ زَمَانَ ما بَعْدَ الثَّلَاثِينَ شَهْرًا ليس بِمُرَادٍ فَيُعْمَلُ بِإِطْلَاقِهِ فِيمَا وَرَاءَهُ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ‏}‏‏.‏

وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمَا إرَادَةَ الْفِصَالِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ فَيَقْتَضِي بَقَاءَ الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ الْفِصَالُ بَعْدَهُمَا وَالثَّانِي أَنَّهُ أَثْبَتَ لَهُمَا إرَادَةَ الْفِصَالِ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ وَلَا يَكُونُ الْفِصَالُ إلَّا عن الرَّضَاعِ فَدَلَّ على بَقَاءِ حُكْمِ الرَّضَاعِ في مُطْلَقِ الْوَقْتِ إلَى أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ على التَّقْيِيدِ وقَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ‏}‏ أَثْبَتَ لَهُمَا إرَادَةَ الِاسْتِرْضَاعِ مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ‏.‏

فَمَنْ ادَّعَى التَّقْيِيدَ بِالْحَوْلَيْنِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَلِأَنَّ الْإِرْضَاعَ إنَّمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ لِكَوْنِهِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ منشرا ‏[‏منشزا‏]‏ لِلْعَظْمِ على ما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ وَمِنْ الْمُحَالِ عَادَةً أَنْ يَكُونَ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ إلَى الْحَوْلَيْنِ ثُمَّ لَا يَنْبُتُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِسَاعَةٍ لَطِيفَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ما أَجْرَى الْعَادَةَ بتغير ‏[‏بتغيير‏]‏ الْغِذَاءِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ قد تَلِدُ في الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ فإذا تَمَّ على الصَّبِيِّ سَنَتَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ تُؤْمَرَ الْمَرْأَةُ بِفِطَامِهِ لِأَنَّهُ يُخَافُ منه الْهَلَاكُ على الْوَلَدِ إذْ لو لم يُعَوَّدْ بِغَيْرِهِ من الطَّعَامِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُؤْمَرَ بِالرَّضَاعِ وَمُحَالٌ أَنْ تُؤْمَرَ بِالرَّضَاعِ وَيُحَرَّمُ عليها الرَّضَاعُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ أَنَّ الرَّضَاعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ يَكُونُ رَضَاعًا إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ في تَقْدِيرِهِ مُدَّةَ إبْقَاءِ حُكْمِ الرَّضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مُدَّةِ تَغَيُّرِ الْوَلَدِ فإن الْوَلَدَ يَبْقَى في بَطْنِ أُمِّهِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا ثُمَّ يَنْفصل فَيَصِيرُ أَصْلًا في الْغِذَاءِ وَزُفَرُ اعْتَبَرَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ سَنَةً كَامِلَةً فقال لَمَّا ثَبَتَ حُكْمُ الرَّضَاعِ في ابْتِدَاءِ السَّنَةِ الثَّالِثَةِ لِمَا قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ يَثْبُتُ في بَقِيَّتِهَا كَالسَّنَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ‏.‏

وَأَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى فَفِيهَا أَنَّ الْحَوْلَيْنِ مُدَّةُ الرَّضَاعِ في حَقِّ من أَرَادَ تَمَامَ الرَّضَاعَةِ وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الزَّائِدُ على الْحَوْلَيْنِ مُدَّةَ الرَّضَاعِ في حَقِّ من لم يُرِدْ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ مع ما أَنَّ ذِكْرَ الشَّيْءِ بِالتَّمَامِ لَا يَمْنَعُ من احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ عليه أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ من أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ زِيَادَةَ الْفَرْضِ عليه فإن طَوَافَ الزِّيَارَةِ من فُرُوضِ الْحَجِّ على أَنَّ في الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْحَوْلَيْنِ تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ لَكِنَّهَا تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ في حَقِّ الْحُرْمَةِ أو في حَقِّ وُجُوبِ أَجْرِ الرَّضَاعِ على الْأَبِ فَالنَّصُّ لَا يَتَعَرَّضُ له وَعِنْدَهُمَا تَمَامُ مُدَّةِ الرَّضَاعِ في حَقِّ وُجُوبِ الأجر على الْأَبِ حتى أَنَّ الْأُمَّ الْمُطَلَّقَةَ إذَا طَلَبَتْ الأجر بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ وَلَا تُرْضِعُ بِلَا أَجْرٍ لم يُجْبَرْ الْأَبُ على أَجْرِ الرَّضَاعِ فِيمَا زَادَ على الْحَوْلَيْنِ أو تُحْمَلُ الْآيَةُ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ لِأَنَّ دَلَائِلَ اللَّهِ عز وجل لَا تَتَنَاقَضُ وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فَالْفِصَالُ في عَامَيْنِ لَا يَنْفِي الْفِصَالَ في أَكْثَرِ من عَامَيْنِ كما لَا يَنْفِيهِ في أَقَلَّ من عَامَيْنِ عن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَكَانَ هذا اسْتِدْلَالًا بِالْمَسْكُوتِ كَقَوْلِهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا‏}‏ الْآيَةَ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ جَوَازُ الْكتابةِ إذَا لم يَعْلَمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّالِثَةُ فَتَحْتَمِلُ ما ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْمُرَادَ من الْحَمْلِ هو الْحَمْلُ بِالْبَطْنِ وَالْفِصَالُ هو الْفِطَامُ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ الرَّضَاعِ سَنَتَيْنِ وَمُدَّةُ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ كما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَتَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من الْحَمْلِ الْحَمْلَ بِالْيَدِ وَالْحِجْرِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّلَاثُونَ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَالْفِصَالِ جميعا لِأَنَّهُ يُحْمَلُ بِالْيَدِ وَالْحِجْرِ في هذه الْمُدَّةِ غَالِبًا لَا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هذه الْمُدَّةِ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَبَعْضُهَا مُدَّةَ الْفِصَالِ لِأَنَّ إضَافَةَ السَّنَتَيْنِ إلَى الْوَقْتِ لَا تَقْتَضِي قِسْمَةَ الْوَقْتِ عَلَيْهِمَا بَلْ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذلك الْوَقْتِ مُدَّةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ صَوْمُك وَزَكَاتُك في شَهْرِ رَمَضَانَ هذا لَا يَقْتَضِي قِسْمَةَ الشَّهْرِ عَلَيْهِمَا بَلْ يَقْتَضِي كَوْنَ الشَّهْرِ كُلِّهِ وَقْتًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّلَاثُونَ شَهْرًا مُدَّةَ الرَّضَاعِ كما هو مَذْهَبُ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ على أَنَّهُ إن وَقَعَ التَّعَارُضُ بين الْآيَاتِ ظَاهِرًا لَكِنْ ما تَلَوْنَا حَاظِرٌ وما تَلَوْتُمْ مُبِيحٌ وَالْعَمَلُ بِالْحَاظِرِ أَوْلَى احْتِيَاطًا‏.‏

وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمَشْهُورُ لَا رَضَاعَ بَعْدَ فِصَالٍ وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الحديث هذا وَأَنَّ من ذَكَرَ الْحَوْلَيْنِ حَمَلَهُ على الْمَعْنَى عِنْدَهُ وَلَوْ ثَبَتَ هذا اللَّفْظُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْإِرْضَاعَ على الْأَبِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ أَيْ في حَقِّ وُجُوبِ الأجر عليه على ما ذَكَرْنَا من تَأْوِيلِ الْآيَةِ أو يُحْمَلُ على هذا ‏[‏هذه‏]‏ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا وَالله الموفق‏.‏

ثُمَّ الرَّضَاعُ يُحَرِّمُ في الْمُدَّةِ على اخْتِلَافِهِمْ فيها سَوَاءٌ فُطِمَ في الْمُدَّةِ أو لم يُفْطَمْ هذا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا حتى لو فصل الرَّضِيعُ في مُدَّةِ الرَّضَاعِ ثُمَّ سُقِيَ بَعْدَ ذلك في الْمُدَّةِ كان ذلك رَضَاعًا مُحَرِّمًا وَلَا يُعْتَبَرُ الْفِطَامُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْوَقْتُ فَيُحَرِّمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ ما كان في السَّنَتَيْنِ وَنِصْفٍ وَعِنْدَهُمَا ما كان في السَّنَتَيْنِ لِأَنَّ الرَّضَاعَ في وَقْتِهِ عُرِفَ مُحَرِّمًا في الشَّرْعِ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ من غَيْرِ فصل بين ما إذَا فُطِمَ أو لم يُفْطَمْ‏.‏

وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال إذَا فُطِمَ في السَّنَتَيْنِ حتى اسْتَغْنَى بِالْفِطَامِ ثُمَّ ارْتَضَعَ بَعْدَ ذلك في السَّنَتَيْنِ أو الثَّلَاثِينَ شَهْرًا لم يَكُنْ ذلك رَضَاعًا لِأَنَّهُ لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِطَامِ وَإِنْ هِيَ فَطَمَتْهُ فَأَكَلَ أَكْلًا ضَعِيفًا لَا يَسْتَغْنِي بِهِ عن الرَّضَاعِ ثُمَّ عَادَ فَأُرْضِعَ كما يُرْضَعُ أَوَّلًا في الثَّلَاثِينَ شَهْرًا فَهُوَ رَضَاعٌ مُحَرِّمٌ كما يُحَرِّمُ رَضَاعُ الصَّغِيرِ الذي لم يُفْطَمْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ تَفْسِيرًا لِظَاهِرِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا وهو أَنَّ الرَّضَاعَ في الْمُدَّةِ بَعْدَ الْفِطَامِ إنَّمَا يَكُونُ رَضَاعًا مُحَرِّمًا إذا لم يَكُنْ الْفِطَامُ تَامًّا بِأَنْ كان لَا يَسْتَغْنِي بِالطَّعَامِ عن الرَّضَاعِ فَإِنْ اسْتَغْنَى لَا يُحَرِّمُ بِالْإِجْمَاعِ وَيُحْمَلُ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ على الْفِصَالِ الْمُتَعَارَفِ الْمُعْتَادِ وهو الْفِصَالُ التَّامُّ الْمُغْنِي عن الرَّضَاعِ وَيَسْتَوِي في الرَّضَاعِ الْمُحَرِّمِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ وَعَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنهما أن قَلِيلَ الرَّضَاعِ لَا يُحَرِّمُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فقال لَا يُحَرِّمُ إلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ‏.‏

وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت كان فِيمَا نَزَلَ عَشْرُ رَضَعَاتٍ يحرمن ‏[‏يحرم‏]‏ ثُمَّ صِرْنَ إلَى خَمْسٍ فَتُوُفِّيَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو فِيمَا يُقْرَأُ وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال‏:‏ «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ وَلَا الْإِمْلَاجَةُ ولا ‏[‏والإملاجتان‏]‏ الإملاجتان» وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ لِكَوْنِهِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ ومنشرا ‏[‏ومنشزا‏]‏ لِلْعَظْمِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ بِالْقَلِيلِ منه فَلَا يَكُونُ الْقَلِيلُ مُحَرِّمًا وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ من الرَّضَاعَةِ‏}‏ مُطْلَقًا عن الْقَدْرِ وَرُوِيَ عن عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا قَلِيلُ الرَّضَاعِ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ‏.‏

وَرُوِيَ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال الرَّضْعَةُ الْوَاحِدَةُ تُحَرِّمُ وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن الزُّبَيْرِ يقول لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ فقال قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ من قَضَاءِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ‏}‏ وروى أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها تَقُولُ لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ فقال حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى وَخَيْرٌ من حُكْمِهَا وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها فَقَدْ قِيلَ إنَّهُ لم يَثْبُتْ عنها وهو الظَّاهِرُ فإنه رُوِيَ أنها قالت تُوُفِّيَ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم وهو مِمَّا يُتْلَى في الْقُرْآنِ فما الذي ‏(‏نَسَخَهُ‏)‏ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاةِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم‏.‏

وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ ضاع ‏[‏الرضاع‏]‏ شَيْءٌ من الْقُرْآنِ وَلِهَذَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هذا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ وَأَنَّهُ من صَيَارِفَةِ الحديث وَلَئِنْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان في رَضَاعِ الْكَبِيرِ فَنُسِخَ الْعَدَدُ بِنَسْخِ رَضَاعِ الْكَبِيرِ وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَصَّةِ وَالْمَصَّتَيْنِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ في إسْنَادِهِ إضطرابا لِأَنَّ مَدَارَهُ على عُرْوَةَ بن الزُّبَيْرِ عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عُرْوَةُ عن الرَّضَاعَةِ فقال ما كان في الْحَوْلَيْنِ وَإِنْ كان قَطْرَةً وَاحِدَةً مُحَرِّمٌ وَالرَّاوِي إذَا عَمِلَ بِخِلَافِ ما روي أَوْجَبَ ذلك وَهْنًا في ثُبُوتِ الحديث لِأَنَّهُ لو ثَبَتَ عِنْدَهُ لَعَمِلَ بِهِ على أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لم تَثْبُتْ لِعَدَمِ الْقَدْرِ الْمُحَرِّمِ وَيُحْتَمَلُ أنها لم تَثْبُتْ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ أَنَّ اللَّبَنَ وَصَلَ إلَى جَوْفِ الصَّبِيِّ أَمْ لَا وما لم يَصِلْ لَا يُحَرِّمُ فَلَا يَثْبُتُ لِعَدَمِ الْقَدْرِ المحرم ‏[‏المحترم‏]‏ وَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بهذا الحديث بِالِاحْتِمَالِ وَلِهَذَا قال ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما إذَا عقي الصَّبِيُّ فَقَدْ حُرِّمَ حين سُئِلَ عن الرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ هل تُحَرِّمُ لِأَنَّ الْعِقْيَ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ من بَطْنِ الصَّبِيِّ حين يُولَدُ أَسْوَدُ لَزِجٌ إذَا وَصَلَ اللَّبَنُ إلَى جَوْفِهِ يُقَالُ هل عقيتم ‏[‏عقى‏]‏ صَبِيُّكُمْ أَيْ هل سَقَيْتُمُوهُ عَسَلًا لِيَسْقُطَ عنه عِقْيُهُ إنَّمَا ذُكِرَ ذلك لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّبَنَ قد صَارَ في جَوْفِهِ لِأَنَّهُ لَا يعقي من ذلك اللَّبَنِ حتى يَصِيرَ في جَوْفِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان ذلك في إرْضَاعِ الْكَبِيرِ حين كان مُحَرِّمًا ثُمَّ نُسِخَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الرَّضَاعَ إنَّمَا يُحَرِّمُ لِكَوْنِهِ مُنْبِتًا لِلَّحْمِ منشرا ‏[‏منشزا‏]‏ لِلْعَظْمِ فَنَقُولُ الْقَلِيلُ يُنْبِتُ وينشر ‏[‏وينشز‏]‏ بِقَدْرِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُحَرِّمَ بِأَصْلِهِ وَقَدْرِهِ على أن هذه الْأَحَادِيثِ إنْ ثَبَتَتْ فَهِيَ مُبِيحَةٌ وما تَلَوْنَا مُحَرِّمٌ وَالْمُحَرِّمُ يَقْضِي على الْمُبِيحِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ الْجُرْعَةَ الْكَثِيرَةَ عِنْدَهُ لَا تُحَرِّمُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَرْعَةَ الْوَاحِدَةَ الْكَثِيرَةَ في إنبات ‏[‏إثبات‏]‏ اللَّحْمِ إنشار ‏[‏وإنشاز‏]‏ الْعَظْمِ فَوْقَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ صِغَارٍ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا مَدَارَ على هذا وَكَذَا يَسْتَوِي فيه لَبَنُ الْحَيَّةِ وَالْمَيِّتَةِ بِأَنْ حُلِبَ لَبَنُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا في قَدَحٍ فَأُوجِرَ بِهِ صَبِيٌّ يُحَرِّمُ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَبَنُ الْمَيِّتَةِ لَا يُحَرِّمُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا حَلَبَ لَبَنَهَا في حَالِ حَيَاتِهَا في إنَاءٍ فَأُوجِرَ بِهِ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَوْتِهَا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ‏.‏

وَجْهٌ قَوْلُهُ أن حُكْمَ الرَّضَاعِ هو الْحُرْمَةُ وَالْمَرْأَةُ بِالْمَوْتِ خَرَجَتْ من أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِهَذَا الْحُكْمِ وَلِهَذَا لم تَثْبُتْ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْئِهَا عِنْدَكُمْ فَصَارَ لَبَنُهَا كَلَبَنِ الْبَهَائِمِ وَلَوْ ارْتَضَعَ صَغِيرَانِ من لَبَنِ بَهِيمَةٍ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمَا كَذَا هذا وإذا لم تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ في حَقِّهَا لَا تَثْبُتُ في حَقِّ غَيْرِهَا لِأَنَّ الْمُرْضِعَةَ أَصْلٌ في هذا الْحُكْمِ فَأَوَّلًا يَثْبُتُ في حَقِّهَا ثُمَّ يتعدي إلَى غَيْرِهَا فإذا لم يَثْبُتْ في حَقِّهَا فَكَيْفَ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا بِخِلَافِ ما إذَا حُلِبَ حَالَ حَيَاتِهَا ثُمَّ أُوجِرَ الصَّبِيُّ بَعْدَ وَفَاتِهَا لِأَنَّهَا كانت مَحَلًّا قَابِلًا لِلْحُكْمِ وَقْتَ انْفِصَالِ اللَّبَنِ منها فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهَا بَعْدَ ذلك وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَلِأَنَّ اللَّبَنَ قد يَنْجُسُ بِمَوْتِهَا لِتَنَجُّسِ وِعَائِهِ وهو الثَّدْيُ فَأَشْبَهَ الْبَوْلَ وَالدَّمَ‏.‏

وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ من الرَّضَاعِ ما يَحْرُمُ من النَّسَبِ وَاسْمُ الرَّضَاعِ لَا يَقِفُ على الِارْتِضَاعِ من الثَّدْيِ فإن الْعَرَبَ تَقُولُ يَتِيمٌ رَاضِعٌ وَإِنْ كان يَرْضَعُ بِلَبَنِ الشَّاةِ وَالْبَقَرِ وَلَا على فِعْلِ الِارْتِضَاعِ منها بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ منها وَهِيَ نَائِمَةٌ يُسَمَّى ذلك رَضَاعًا حتى يُحَرِّمَ وَيُقَالُ أَيْضًا أُرْضِعَ هذا الصَّبِيُّ بِلَبَنِ هذه الْمَيِّتَةِ كما يُقَالُ أُرْضِعَ بِلَبَنِ الْحَيَّةِ وَقَوْلُهُ الرَّضَاعُ من الْمَجَاعَةِ وَقَوْلُهُ الرَّضَاعُ ما أَنْبَتَ اللَّحْمَ وأنشر ‏[‏وأنشز‏]‏ الْعَظْمَ وَقَوْلُهُ الرَّضَاعُ ما فَتَقَ الْأَمْعَاءَ وَلَبَنُ الْمَيِّتَةِ يَدْفَعُ الْجُوعَ وَيُنْبِتُ اللَّحْمَ وينشر ‏[‏وينشز‏]‏ الْعَظْمَ وَيَفْتُقُ الْأَمْعَاءَ فَيُوجِبُ الحرمة ‏[‏الحرية‏]‏ وَلِأَنَّ اللَّبَنَ كان مُحَرِّمًا في حَالِ الْحَيَاةِ‏.‏

وَالْعَارِضُ هو الْمَوْتُ وَاللَّبَنُ لَا يَمُوتُ كَالْبَيْضَةِ كَذَا رُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال اللَّبَنُ لَا يَمُوتُ وَلِأَنَّ الْمَوْتَ يَحِلُّ مَحَلَّ الْحَيَاةِ وَلَا حَيَاةَ في اللَّبَنِ أَلَا تَرَى أنها لم تَتَأَلَّمْ بِأَخْذِهِ في حَالِ حَيَاتِهَا وَالْحَيَوَانُ يَتَأَلَّمُ بِأَخْذِ ما فيه حَيَاةٌ من لَحْمِهِ وَسَائِرِ أَعْضَائِهِ وإذا لم يَكُنْ فيه حَيَاةٌ كان حَالُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرْأَةِ كَحَالِهِ قبل مَوْتِهَا وَقَبْلَ مَوْتِهَا مُحَرِّمٌ كَذَا بَعْدَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ الْمَرْأَةُ بِالْمَوْتِ خَرَجَتْ من أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْحُرْمَةِ وَهِيَ الْأَصْلُ في هذه الْحُرْمَةِ فَنَقُولُ الْحُرْمَةُ في حَالِ الْحَيَاةِ ما ثَبَتَتْ بِاعْتِبَارِ الْأَصَالَةِ وَالتَّبَعِيَّةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ إنْبَاتِ اللَّحْمِ وإنشار ‏[‏وإنشاز‏]‏ الْعَظْمِ وقد بَقِيَ هذا الْمَعْنَى بَعْدَ الْمَوْتِ فَتَبْقَى الْحُرْمَةِ بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِدَفْعِ فَسَادِ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ أو بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ لِكَوْنِ الْوَطْءِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْوَلَدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْمَعْنَيَيْنِ لَا يَتَقَدَّرُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِذَلِكَ افتراقا ‏[‏افترقا‏]‏ وَقَوْلُهُ اللَّبَنُ يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ مَمْنُوعٌ وَهَذَا شَيْءٌ بَنَاهُ على أَصْلِهِ فَأَمَّا على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَاللَّبَنُ لَا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ بَلْ هو طَاهِرٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ تَنَجَّسَ الْوِعَاءُ الْأَصْلِيُّ له وَنَجَاسَةُ الظَّرْفِ إنَّمَا تُوجِبُ نَجَاسَةَ الْمَظْرُوفِ إذَا لم يَكُنْ الظَّرْفُ مَعْدِنًا لِلْمَظْرُوفِ وَمَوْضِعًا له في الْأَصْلِ فَأَمَّا إذَا كان في الْأَصْلِ مَوْضِعُهُ وَمَظَانُّهُ فَنَجَاسَتُهُ لَا تُوجِبُ نَجَاسَةَ الْمَظْرُوفِ‏.‏

أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّمَ الذي يَجْرِي بين اللَّحْمِ وَالْجِلْدِ في الْمُذَكَّاةِ لَا يُنَجِّسُ اللَّحْمَ لَمَّا كان في مَعْدِنِهِ وَمَظَانِّهِ فَكَذَلِكَ اللَّبَنُ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو حَلَبَ لَبَنَهَا في حَالِ حَيَاتِهَا في وِعَاءٍ نَجِسٍ فَأُوجِرَ بِهِ الصَّبِيُّ يُحَرِّمُ وَلَا فَرْقَ بين الْوِعَاءَيْنِ إذْ النَّجَسُ في الْحَالَيْنِ ما يُجَاوِرُ اللَّبَنَ لَا عَيْنَهُ ثُمَّ نَجَاسَةُ الْوِعَاءِ الذي لبس ‏[‏ليس‏]‏ بِمَعْدِنِ اللَّبَنِ لَمَّا لم يَمْنَعْ وُقُوعَ التَّحْرِيمِ فما هو مَعْدِنٌ له أَوْلَى وَيَسْتَوِي في تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ الِارْتِضَاعُ من الثَّدْيِ وَالْإِسْعَاطِ وَالْإِيجَارِ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ في التَّحْرِيمِ مِمَّا هو مَعْدِنٌ له أَوْلَى وَيَسْتَوِي في تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ الِارْتِضَاعُ من الثَّدْيِ وَالْإِسْعَاطِ وَالْإِيجَارِ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ في التَّحْرِيمِ هو حُصُولُ الْغِذَاءِ بِاللَّبَنِ وَإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وإنشار ‏[‏وإنشاز‏]‏ الْعَظْمِ وَسَدِّ الْمَجَاعَةِ لَأَنْ يَتَحَقَّقَ الْجُزْئِيَّةُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْإِسْعَاطِ وَالْإِيجَارِ لِأَنَّ السَّعُوطَ يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ وَإِلَى الْحَلْقِ فَيُغَذِّي وَيَسُدُّ الْجُوعَ وَالْوَجُورُ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَيُغَذِّي وَأَمَّا الْإِقْطَارُ في الْأُذُنِ فَلَا يُحَرِّمُ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وُصُولُهُ إلَى الدِّمَاغِ لِضِيقِ الْخَرْقِ في الْأُذُنِ‏.‏ وَكَذَلِكَ الْإِقْطَارُ في الْإِحْلِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَضْلًا عن الْوُصُولِ إلَى الْمَعِدَةِ وَكَذَلِكَ الْإِقْطَارُ في الْعَيْنِ وَالْقُبُلِ لِمَا قُلْنَا‏.‏

وَكَذَلِكَ الأقطار في الْجَائِفَةِ وفي الْآمَّةِ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ تَصِلُ إلَى الْجَوْفِ لَا إلَى الْمَعِدَةِ وَالْآمَّةُ إنْ كان يَصِلُ إلَى الْمَعِدَةِ لَكِنْ ما يَصِلُ إلَيْهَا من الْجِرَاحَةِ لَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِذَاءُ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَالْحُقْنَةُ لَا تُحَرِّمُ بِأَنْ حُقِنَ الصَّبِيُّ بِاللَّبَنِ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أنها تُحَرِّمُ وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أنها وَصَلَتْ إلَى الْجَوْفِ حتى أَوْجَبَتْ فَسَادَ الصَّوْمِ فَصَارَ كما لو وَصَلَ من الْفَمِ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ في هذه الْحُرْمَةِ هو مَعْنَى التَّغَذِّي وَالْحُقْنَةُ لَا تَصِلُ إلَى مَوْضِعِ الْغِذَاءِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْغِذَاءِ هو الْمَعِدَةُ وَالْحُقْنَةُ لَا تَصِلُ إلَيْهَا فَلَا يَحْصُلُ بها نَبَاتُ اللَّحْمِ ونشور ‏[‏ونشوز‏]‏ الْعَظْمِ وَانْدِفَاعُ الْجُوعِ فَلَا تُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَلَوْ جُعِلَ اللَّبَنُ مَخِيضًا أو رَائِبًا أو شِيرَازًا أو جينا ‏[‏جبنا‏]‏ أو أَقِطًا أو مَصْلًا فَتَنَاوَلَهُ الصَّبِيُّ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ لِأَنَّ اسْمَ الرَّضَاعِ لَا يَقَعُ عليه وَكَذَا لَا يُنْبِتُ اللَّحْمَ وَلَا ينشر ‏[‏ينشز‏]‏ الْعَظْمَ وَلَا يَكْتَفِي بِهِ الصَّبِيُّ في الإغتذاء فَلَا يُحَرِّمُ وَلَوْ اخْتَلَطَ اللَّبَنُ بِغَيْرِهِ فَهَذَا على وُجُوهٍ أَمَّا إنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ أو بِالدَّوَاءِ أو بِالْمَاءِ أو بِلَبَنِ الْبَهَائِمِ أو بِلَبَنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى فَإِنْ اخْتَلَطَ بِالطَّعَامِ فَإِنْ مَسَّتْهُ النَّارُ حتى نَضِجَ لم يُحَرِّمْ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عن طَبْعِهِ بِالطَّبْخِ وَإِنْ لم تَمَسَّهُ النَّارُ فَإِنْ كان الْغَالِبُ هو الطَّعَامَ لم تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا غَلَبَ سَلَبَ قُوَّةَ اللَّبَنِ وَأَزَالَ مَعْنَاهُ وهو التَّغَذِّي فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَإِنْ كان اللَّبَنُ غَالِبًا لِلطَّعَامِ وهو طَعَامٌ يَسْتَبِينُ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَثْبُتُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ اعتبارالغالب وَإِلْحَاقَ الْمَغْلُوبِ بِالْعَدَمِ أَصْلٌ في الشَّرْعِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ ما أَمْكَنَ كما إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ أو بِلَبَنِ شَاةٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الطَّعَامَ وَإِنْ كان أَقَلَّ من اللَّبَنِ فإنه يَسْلُبُ قُوَّةَ اللَّبَنِ لِأَنَّهُ يَرِقُّ وَيَضْعُفُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ ذلك في حِسِّ الْبَصَرِ فَلَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ بِهِ في تَغْذِيَةِ الصَّبِيِّ فَكَانَ اللَّبَنُ مَغْلُوبًا مَعْنًى وَإِنْ كان غَالِبًا صُورَةً وَإِنْ اخْتَلَطَ بِالدَّوَاءِ أو بِالدُّهْنِ أو بِالنبي صلى اللَّهُ عليه وسلمذِ يُعْتَبَرُ فيه الْغَالِبُ فَإِنْ كان اللَّبَنُ غَالِبًا يُحَرِّمُ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ لَا تَحِلُّ بِصِفَةِ اللَّبَنِ وَصَيْرُورَتِهِ غِذَاءً بَلْ يقدر ‏[‏بقدر‏]‏ ذلك لِأَنَّهَا إنَّمَا تُخْلَطُ بِاللَّبَنِ لِيُوصَلَ اللَّبَنُ إلَى ما كان لَا يَصِلُ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ لِاخْتِصَاصِهَا بِقُوَّةِ التَّنْفِيذِ ثُمَّ اللَّبَنُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ فَمَعَ هذه الْأَشْيَاءِ أَوْلَى وَإِنْ كان الدَّوَاءُ هو الْغَالِبَ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ لِأَنَّ اللَّبَنَ إذَا صَارَ مَغْلُوبًا صَارَ مُسْتَهْلَكًا فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّغَذِّي فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَكَذَا إذَا اخْتَلَطَ بِالْمَاءِ يُعْتَبَرُ فيه الْغَالِبُ أَيْضًا فَإِنْ كان اللَّبَنُ غَالِبًا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَإِنْ كان الْمَاءُ غَالِبًا لَا يَثْبُتُ بِهِ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا قُطِّرَ من الثَّدْيِ مِقْدَارَ خَمْسِ رَضَعَاتٍ في حب ‏[‏جب‏]‏ مَاءٍ فسقى منه الصَّبِيُّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّبَنَ وَصَلَ إلَى جَوْفِ الصَّبِيِّ بِقَدْرِهِ في وَقْتِهِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ كما إذَا كان اللَّبَنُ غَالِبًا وَلَا شَكَّ في وَقْتِ الرَّضَاعِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْقَدْرَ الْمُحَرِّمَ من اللَّبَنِ وَصَلَ إلَى جَوْفِ الصَّبِيِّ أَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ كان مَغْلُوبًا فَهُوَ مَوْجُودٌ شَائِعٌ في أَجْزَاءِ الْمَاءِ وَإِنْ كان لَا يُرَى فَيُوجِبُ الْحُرْمَةَ‏.‏ وَلَنَا أَنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ الْحُرْمَةَ في باب الرَّضَاعِ بِمَعْنَى التَّغَذِّي على ما نَطَقَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ وَاللَّبَنُ الْمَغْلُوبُ بِالْمَاءِ لَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ لِزَوَالِ قُوَّتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ في تَغْذِيَةِ الصَّبِيِّ فلم يَكُنْ مُحَرِّمًا وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ جَوَابَ الْكتاب يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُمَا‏.‏

فَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ لا يُحَرِّمَ وَإِنْ كان اللَّبَنُ غَالِبًا وَقَاسَ الْمَاءَ على الطَّعَامِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا من حَيْثُ أن اخْتِلَاطَهُ بِالْمَاءِ يَسْلُبُ قُوَّتَهُ وَإِنْ كان الْمَاءُ قَلِيلًا كَاخْتِلَاطِهِ بِالطَّعَامِ الْقَلِيلِ وفي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَطْلَقَ الْجَوَابَ ولم يذكر الْخِلَافَ وَلَوْ اخْتَلَطَ بِلَبَنِ الْبَهَائِمِ كَلَبَنِ الشَّاةِ وَغَيْرِهِ يُعْتَبَرُ فيه الْغَالِبُ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ اخْتَلَطَ لَبَنُ امْرَأَةٍ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى فَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ مِنْهُمَا في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ كَذَلِكَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جميعا وهو قَوْلُ زُفَرَ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللَّبَنَيْنِ من جِنْسٍ وَاحِدٍ وَالْجِنْسُ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ فَلَا يَكُونُ خَلْطُ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ اسْتِهْلَاكًا فَلَا يَصِيرُ الْقَلِيلُ مُسْتَهْلَكًا في الْكَثِيرِ فيغذى الصَّبِيَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهِ بِإِنْبَاتِ اللَّحْمِ وإنشار ‏[‏وإنشاز‏]‏ الْعَظْمِ أو سَدِّ الْجُوعِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَسْلُبُ قُوَّةَ الْآخَرِ‏.‏

وَالدَّلِيلُ على أَنَّ خَلْطَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ لَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا له أَنَّ من غَصَبَ من آخَرَ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِزَيْتٍ آخَرَ اشتراكا ‏[‏اشتركا‏]‏ فيه في قَوْلِهِمْ جميعا وَلَوْ خَلَطَهُ بِشَيْرَجٍ أو بِدُهْنٍ آخَرَ من غَيْرِ جِنْسِهِ يُعْتَبَرُ الْغَالِبُ فَإِنْ كان الْغَالِبُ هو الْمَغْصُوبَ كان لِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيُعْطِيَهُ قِسْطَ ما اخْتَلَطَ بِزَيْتِهِ وَإِنْ كان الْغَالِبُ غير الْمَغْصُوبِ صَارَ الْمَغْصُوبُ مُسْتَهْلَكًا فيه ولم يَكُنْ له أَنْ يُشَارِكَهُ فيه وَلَكِنَّ الْغَاصِبَ يَغْرَمُ له مِثْلَ ما غَصَبَهُ فَدَلَّ ذلك على اخْتِلَافِ حُكْمِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ وَالْجِنْسَيْنِ وأبو يُوسُفَ اعْتَبَرَ هذا النَّوْعَ من الِاخْتِلَاطِ بِاخْتِلَاطِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ وَهُنَاكَ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ كَذَا هَهُنَا وَلِمُحَمَّدٍ أَنْ يُفَرِّقَ بين الْفصليْنِ فإن اخْتِلَاطَ اللَّبَنِ بِمَا هو من جِنْسِهِ لَا يُوجِبُ الاخلال بِمَعْنَى التَّغَذِّي من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِهِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَسْلُبُ قُوَّةَ الْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ اخْتِلَاطُ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ وَاللَّبَنُ مَغْلُوبٌ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْلُبُ قُوَّةَ اللَّبَنِ أو يحل ‏[‏يخل‏]‏ بِهِ فَلَا يَحْصُلُ التَّغَذِّي أو يَخْتَلُّ وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

وَلَوْ طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَهَا لَبَنٌ من وَلَدٍ كانت وَلَدَتْهُ منه فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَهِيَ كَذَلِكَ فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا عِنْدَ الثَّانِي يُنْظَرُ إنْ أَرْضَعَتْ قبل أَنْ تَحْمِلَ من الثَّانِي فَالرَّضَاعُ من الْأَوَّلِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّبَنَ نَزَلَ من الْأَوَّلِ فَلَا يَرْتَفِعُ حكم ‏[‏حكمه‏]‏ بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ كما لَا يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ وَكَمَا لو حَلَبَ منها لبن ‏[‏اللبن‏]‏ ثُمَّ مَاتَتْ لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الرَّضَاعِ من لَبَنِهَا كَذَا هذا وَإِنْ أَرْضَعَتْ بَعْدَمَا وَضَعَتْ من الثَّانِي فَالرَّضَاعُ من الثَّانِي بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّبَنَ منه ظَاهِرًا وَإِنْ أَرْضَعَتْ بعد ما حَمَلَتْ من الثَّانِي قبل أَنْ تَضَعَ فَالرَّضَاعُ من الْأَوَّلِ إلَى أَنْ تَضَعَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ إنْ عُلِمَ أَنَّ هذا اللَّبَنَ من الثَّانِي بِأَنْ ازْدَادَ لَبَنُهَا فَالرَّضَاعُ من الثَّانِي وَإِنْ لم يُعْلَمْ فَالرَّضَاعُ من الْأَوَّلِ وَرَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عنه أنها إذَا حَبِلَتْ فَاللَّبَنُ الثاني ‏[‏للثاني‏]‏ وقال مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ الرَّضَاعُ مِنْهُمَا جميعا إلَى أَنْ تَلِدَ فإذا وَلَدَتْ فَهُوَ من الثَّانِي‏.‏

وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ اللَّبَنَ الْأَوَّلَ باقي ‏[‏باق‏]‏ وَالْحَمْلَ سَبَبٌ لِحُدُوثِ زِيَادَةِ لَبَنٍ فَيَجْتَمِعُ لَبَنَانِ في ثَدْيٍ وَاحِدٍ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِهِمَا كما قال في اخْتِلَاطِ أَحَدِ اللَّبَنَيْنِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ ما إذَا وَضَعَتْ لِأَنَّ اللَّبَنَ الْأَوَّلَ يَنْقَطِعُ بِالْوَضْعِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَكَانَ اللَّبَنُ من الثَّانِي فَكَانَ الرَّضَاعُ منه وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْحَامِلَ قد يَنْزِلُ لها لَبَنٌ فلما ازْدَادَ لَبَنُهَا عِنْدَ الْحَمْلِ من الثَّانِي دَلَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ من الْحَمْلِ الثَّانِي إذْ لو لم يَكُنْ لَكَانَ لَا يَزْدَادُ بَلْ يَنْقُصُ إذْ الْعَادَةُ أَنَّ اللَّبَنَ يَنْقُصُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَلَا يَزْدَادُ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ دَلِيلًا على أنها من الْحَمْلِ الثَّانِي لَا من الْأَوَّلِ‏.‏

وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عنه أَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ بِالْحَمْلِ يَنْقَطِعُ اللَّبَنُ الْأَوَّلُ وَيَحْدُثُ عند ‏[‏عنده‏]‏ لَبَنٌ آخَرُ فَكَانَ الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْحَمْلِ الثَّانِي من الْحَمْلِ الثَّانِي لَا من الْأَوَّلِ فَكَانَ الرَّضَاعُ منه لَا من الْأَوَّلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تزول ‏[‏نزول‏]‏ اللَّبَنِ من الْأَوَّلِ ثَبَتَ بِيَقِينٍ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ سَبَبٌ لِنُزُولِ اللَّبَنِ بِيَقِينٍ عَادَةً فَكَانَ حُكْمُ الْأَوَّلِ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَبْطُلُ حُكْمُهُ ما لم يُوجَدْ سَبَبٌ آخَرُ مِثْلُهُ بِيَقِينٍ وهو وِلَادَةٌ أُخْرَى لَا الْحَمْلُ لِأَنَّ الْحَامِلَ قد يَنْزِلُ لها لَبَنٌ بِسَبَبِ الْحَمْلِ وقد لَا يَنْزِلُ حتى تَضَعَ وَالثَّابِتُ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ وَأَمَّا قَوْلُ أبي يُوسُفَ لَمَّا ازْدَادَ اللَّبَنُ دَلَّ على حُدُوثِ اللَّبَنِ من الثَّانِي فَمَمْنُوعٌ أن زِيَادَةَ اللَّبَنِ تَدُلُّ على حُدُوثِ اللَّبَنِ من الْحَمْلِ فإن لِزِيَادَةِ اللَّبَنِ أَسْبابا من زِيَادَةِ الْغِذَاءِ وَجَوْدَتِهِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ واعتدال الطَّبِيعَةِ وَغَيْرِ ذلك فَلَا يَدُلُّ الْحَمْلُ على حُدُوثِ الزِّيَادَةِ بِالشَّكِّ فَلَا يَنْقَطِعُ الْحُكْمُ عن الْأَوَّلِ بِالشَّكِّ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَالله الموفق‏.‏ لِلصَّوَابِ‏.‏

وَيَسْتَوِي في تَحْرِيمِ الرَّضَاعِ الرَّضَاعُ الْمُقَارِنُ لِلنِّكَاحِ والطارىء ‏[‏والطارئ‏]‏ عليه لِأَنَّ دَلَائِلَ التَّحْرِيمِ لَا تُوجِبُ الْفصل بَيْنَهُمَا وَبَيَانُ هذا الْأَصْلِ في مَسَائِلَ إذَا تَزَوَّجَ صَغِيرَةً فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ من النَّسَبِ أو من الرَّضَاعِ حُرِّمَتْ عليه لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتًا له من الرَّضَاعِ فَتَحْرُمُ عليه كما في النَّسَبِ وَكَذَا إذَا أَرْضَعَتْهَا أُخْتُهُ أو بِنْتُهُ من النَّسَبِ أو من الرَّضَاعِ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ أُخْتِهِ أو بِنْتَ بِنْتِهِ من الرَّضَاعَةِ وَأَنَّهَا ترحم ‏[‏تحرم‏]‏ من الرَّضَاعِ كما تَحْرُمُ من النَّسَبِ وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَتَيْنِ رَضِيعَتَيْنِ فَجَاءَتْ إمرأة أَجْنَبِيَّةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا مَعًا أو على التَّعَاقُبِ حُرِّمَتَا عليه لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ من الرَّضَاعَةِ فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا في حَالَةِ الْبَقَاءِ كما يَحْرُمُ في حَالَةِ الِابْتِدَاءِ كما في النَّسَبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا أَيَّتَهُمَا شَاءَ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هو الْجَمْعُ كما في النَّسَبِ فَإِنْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ جميعا مَعًا حُرِّمْنَ عليه لِأَنَّهُنَّ صِرْنَ أَخَوَاتٍ من الرَّضَاعَةِ فَيَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ أَيَّتَهُنَّ شَاءَ لِمَا قُلْنَا‏.‏

وَإِنْ أَرْضَعَتْهُنَّ على التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ حُرِّمَتْ عليه الْأُولَتَانِ وَكَانَتْ الثَّالِثَةُ زَوْجَتَهُ لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةَ صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَبَانَتَا منه فإذا أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ فَقَدْ صَارَتْ أُخْتًا لَهُمَا لَكِنَّهُمَا أَجْنَبِيَّتَيْنِ فلم يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ فَلَا تَبِينُ منه وكذا إذَا أَرْضَعَتْ الْبِنْتَيْنِ مَعًا ثُمَّ الثَّالِثَةَ حُرِّمَتَا وَالثَّالِثَةُ إمرأته لِمَا قُلْنَا‏.‏

وَلَوْ أَرْضَعَتْ الْأُولَى ثُمَّ الثِّنْتَيْنِ مَعًا حُرِّمْنَ جميعا لِأَنَّ الْأُولَى لم تَحْرُمْ كذا الارضاع لِعَدَمِ الْجَمْعِ فإذا أَرْضَعَتْ الْأُخْرَتَيْنِ مَعًا صِرْنَ أَخَوَاتٍ في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَفْسُدُ نِكَاحُهُنَّ وَلَوْ كُنَّ أَرْبَعَ صَبِيَّاتٍ فَأَرْضَعَتْهُنَّ على التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ حُرِّمْنَ جميعا لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ فَقَدْ صَارَتْ أُخْتًا لِلْأُولَى فَحَصَلَ الْجَمْعُ بين الْأُخْتَيْنِ من الرَّضَاعَةِ فَبَانَتَا وَلَمَّا أَرْضَعَتْ الرَّابِعَةَ فَقَدْ صَارَتْ أُخْتًا لِلثَّالِثَةِ فَحَصَلَ الْجَمْعُ فَبَانَتَا وَحُكْمُ الْمَهْرِ وَالرُّجُوعِ في هذه الْمَسَائِلِ نَذْكُرُهُ في الْمَسْأَلَةِ التي تَلِيهَا وَهِيَ ما إذَا تَزَوَّجَ صَغِيرَةً وَكَبِيرَةً فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ‏.‏

أَمَّا حُكْمُ النِّكَاحِ فَقَدْ حُرِّمَتَا عليه لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ صَارَتْ بِنْتًا لها وَالْجَمْعُ بين الْأُمِّ وَالْبِنْتِ من الرَّضَاعِ نِكَاحًا حَرَامٌ كما يَحْرُمُ من النَّسَبِ ثُمَّ إنْ كان ذلك بَعْدَ ما دخل بِالْكَبِيرَةِ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَبَدًا كما في النَّسَبِ وَإِنْ كان قبل أَنْ يَدْخُلَ بِالْكَبِيرَةِ جَازَ له أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ من الرَّضَاعِ لم يَدْخُلْ بِأُمِّهَا فَلَا يَحْرُمُ عليه نِكَاحُهَا كما في النَّسَبِ لا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ أَبَدًا لِأَنَّهَا أُمُّ مَنْكُوحَتِهِ من الرَّضَاعِ فَتَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ نِكَاحِ الْبِنْتِ دخل بها أو لم يَدْخُلْ بها كما في النَّسَبِ‏.‏

وَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ فَإِنْ كان قد دخل بها فَلَهَا جَمِيعُ مَهْرِهَا سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أو لم تَتَعَمَّدْ لِأَنَّ الْمَهْرَ قد تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَ ذلك فَلَهَا مَهْرُهَا وَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لها لِأَنَّ السُّكْنَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَسْقُطُ بِفِعْلِهَا وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ حَقًّا لها بِطَرِيقَةِ الصِّلَةِ وَبِالْإِرْضَاعِ خَرَجَتْ عن اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ فَإِنْ كان لم يَدْخُلْ بها سَقَطَ مَهْرُهَا فَلَا مَهْرَ لها وَلَا سُكْنَى وَلَا نَفَقَةَ سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أو لم تَتَعَمَّدْ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفُرْقَةَ الْحَاصِلَةَ قبل الدُّخُولِ تُوجِبُ سُقُوطَ كل الْمَهْرِ لِأَنَّ الْمُبْدَلَ يَعُودُ سَلِيمًا إلَى الْمَرْأَةِ وَسَلَامَةُ الْمُبْدَلِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يُوجِبُ سَلَامَةَ الْبَدَلِ لِلْآخَرِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْمُبْدَلُ وَالْبَدَلُ في مِلْكٍ وَاحِدٍ في عَقْدِ الْمُبَادَلَةِ كان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ على الزَّوْجِ شَيْءٌ سَوَاءٌ كانت الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ أو بِطَلَاقٍ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عليه في الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ مَالًا مُقَدَّرًا بِنِصْفِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ صِلَةً لها تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا لِمَا لَحِقَهَا من وَحْشَةِ الْفِرَاقِ بِفَوَاتِ نِعْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ عنها من غَيْرِ رِضَاهَا فإذا أَرْضَعَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فَلَا تَسْتَحِقُّ شيئا وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ على الزَّوْجِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ لَا شَيْءَ لها‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ من قِبَلِهَا لِوُجُودِ عِلَّةِ الْفُرْقَةِ منها وَهِيَ ارْتِضَاعُهَا لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَحْصُلُ اللَّبَنُ في جَوْفِهَا فَيُنْبِتُ اللَّحْمَ وينشر ‏[‏وينشز‏]‏ الْعَظْمَ فَتَحْصُلُ الْجُزْئِيَّةُ التي هِيَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرُ في الْحُرْمَةِ وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ من الْمُرْضِعَةِ التَّمْكِينُ من ارْتِضَاعِهَا بِإِلْقَامِهَا ثَدْيَهَا فَكَانَتْ مُحَصِّلَةً لِلشَّرْطِ وَالْحُكْمُ لِلْعِلَّةِ لَا لِلشَّرْطِ فَلَا يَجِبُ على الزَّوْجِ الصغيرة ‏[‏للصغيرة‏]‏ شَيْءٌ وَلَا يَجِبُ على الزَّوْجِ لِلْمُرْضِعَةِ شَيْءٌ أَيْضًا وَلَنَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْفُرْقَةَ من أَيِّهِمَا كانت تُوجِبُ سُقُوطَ كل الْمَهْرِ لِمَا ذَكَرْنَا‏.‏

وَإِنَّمَا يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ مُقَدَّرًا بِالْمُسَمَّى ابْتِدَاءً صِلَةٌ لِلْمَرْأَةِ نَظَرًا لها ولم يُوجَدْ من الصَّغِيرَةِ ما يُوجِبُ خُرُوجَهَا عن اسْتِحْقَاقِ النَّظَرِ لِأَنَّ فِعْلَهَا لَا يُوصَفُ بِالْخَطَرِ وَلَيْسَتْ هِيَ من أَهْلِ الرِّضَا لِنَجْعَلَ فِعْلَهَا دَلَالَةُ الرِّضَا بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فَلَا تُحْرَمُ نِصْفَ الصَّدَاقِ بِخِلَافِ الْكَبِيرَةِ لِأَنَّ إقْدَامَهَا على الارضاع دَلَالَةُ الرِّضَا بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ وَهِيَ من أَهْلِ الرِّضَا وَإِرْضَاعُهَا جِنَايَةٌ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّظَرَ بِإِيجَابِ نِصْفِ الْمَهْرِ لها ابْتِدَاءً إذْ الْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ على جِنَايَتِهِ بَلْ يَسْتَحِقُّ الزَّجْرَ وَذَلِكَ بِالْحِرْمَانِ لِئَلَّا يَفْعَلَ مثله في الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَجِبُ لها شَيْءٌ سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أو لم تَتَعَمَّدْ لِأَنَّ فِعْلَهَا جِنَايَةٌ في الْحَالَيْنِ وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِمَا أَدَّى على الْكَبِيرَةِ إنْ كانت تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ وَإِنْ كانت لم تَتَعَمَّدْ لم يَرْجِعْ عليها كَذَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ له أَنْ يَرْجِعَ عليها سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أو لم تَتَعَمَّدْ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالشَّافِعِيِّ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هذا ضَمَانُ الاتلاف وَأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ هذا ضَمَانُ الاتلاف أَنَّ الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ من قِبَلِهَا بِإِرْضَاعِهَا وَلِهَذَا لم تَسْتَحِقَّ الْمَهْرَ أَصْلًا وَرَأْسًا سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أو لم تَتَعَمَّدْ وإذا كان حُصُولُ الْفُرْقَةِ من قِبَلِهَا بِإِرْضَاعِهَا صَارَتْ بِالْإِرْضَاعِ مُؤَكِّدَةً نِصْفَ الْمَهْرِ على الزَّوْجِ لِأَنَّهُ كان مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِرِدَّتِهَا أو تَمْكِينِهَا من ابْنِ الزَّوْجِ أو تَقْبِيلِهَا إذَا كَبُرَتْ فَهِيَ بِالْإِرْضَاعِ أَكَّدَتْ نِصْفَ الْمَهْرِ بِحَيْثُ لَا يتحمل ‏[‏يحتمل‏]‏ السُّقُوطَ فَصَارَتْ مُتْلِفَةً عليه مَالَهُ فَتَضْمَنُ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أنها وَإِنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَهِيَ صَاحِبَةُ شَرْطٍ في ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْفُرْقَةِ هِيَ الِارْتِضَاعُ لِلصَّغِيرَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ على أَنَّ إرْضَاعَهَا إنْ كان سَبَبَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ طَرَأَ عليه فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ وهو ارْتِضَاعُ الصَّغِيرَةِ‏.‏

وَالسَّبَبُ إذَا اعْتَرَضَ عليه فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا وَالسَّبَبُ الْمَحْضُ لَا حُكْمَ له وَإِنْ كان صَاحِبُ السَّبَبِ مُتَعَمِّدًا في مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ كَفَتْحِ باب الاصطبل وَالْقَفَصِ حتى خَرَجَتْ الدَّابَّةُ وَضَلَّتْ أو طَارَ الطَّيْرُ وَضَاعَ وَلِأَنَّ الضَّمَانَ لو وَجَبَ عليها إمَّا أَنْ يَجِبَ بِإِتْلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ أو بِإِتْلَافِ الصَّدَاقِ أو بِتَأْكِيدِ نِصْفِهِ على الزَّوْجِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بالاتلاف على أَصْلِنَا وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّهَا ما أَتْلَفَتْ الصَّدَاقَ بَلْ أَسْقَطَتْ نِصْفَهُ الْبَاقِي بَقِيَ وَاجِبًا بِالنِّكَاحِ السَّابِقِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّالِثِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ لَا يُمَاثِلُ التَّفْوِيتَ فَلَا يَكُونُ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْكَبِيرَةَ وَإِنْ كانت مُحَصِّلَةً شَرْطَ الْفُرْقَةِ وَعِلَّةُ الْفُرْقَةِ من الصَّغِيرَةِ كما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَكِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الشَّرْطَ مع الْعِلَّةِ إذَا اشْتَرَكَا في الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ أَيْ في سَبَبِ الْمُؤَاخَذَةِ وَعَدَمِهِ فَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ أَوْلَى من إضَافَتِهِ إلَى الشَّرْطِ‏.‏

فَأَمَّا إذَا كان الشَّرْطُ مَحْظُورًا وَالْعِلَّةُ غير مَوْصُوفَةٍ بِالْحَظْرِ فَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ أَوْلَى من إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ كما في حَقِّ الْبِئْرِ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَالْكَبِيرَةُ إذَا لم تَكُنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَقَدْ اسْتَوَى الشَّرْطُ وَالْعِلَّةُ في عَدَمِ الْحَظْرِ فَكَانَتْ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ ارْتِضَاعُهَا وَإِنْ كانت تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ كان الشَّرْطُ مَحْظُورًا وهو إرْضَاعُ الْكَبِيرَةِ وَالْعِلَّةُ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِالْحَظْرِ وَهِيَ ارْتِضَاعُ الصَّغِيرَةِ فَكَانَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ أَوْلَى‏.‏

وإذا أُضِيفَتْ الْفُرْقَةُ إلَى الْكَبِيرَةِ عِنْدَ تَعَمُّدِهَا الْفَسَادَ وَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلصَّغِيرَةِ على الزَّوْجِ ابْتِدَاءً مُلَازِمًا لِلْفُرْقَةِ صَارَتْ الْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ منها كَأَنَّهَا عِلَّةُ لِوُجُوبِهِ لَا أَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَاجِبًا بِالنِّكَاحِ السَّابِقِ لِأَنَّ ذلك قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لأن قَوْلٌ بِبَقَاءِ نِصْفِ الْمَهْرِ على وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُسْقِطَةِ لِكُلِّهِ وانه بَاطِلٌ فَصَارَتْ الْكَبِيرَةُ مُتْلِفَةً هذا الْقَدْرَ من الْمَالِ على الزَّوْجِ إذْ الْأَدَاءُ مَبْنِيٌّ على الْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ له حَقُّ الرُّجُوعِ عليها وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ الضَّمَانُ على شُهُودِ الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ ما إذَا لم تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ لِأَنَّ عِنْدَ عَدَمِ التَّعَمُّدِ لَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى فِعْلِ الْكَبِيرَةِ فلم يُوجَدْ منها عِلَّةُ وُجُوبِ نِصْفِ الْمَهْرِ على الزَّوْجِ فَلَا يَرْجِعُ عليها‏.‏

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ فَتْحِ باب الْإِصْطَبْلِ وَالْقَفَصِ فَكَمَا يلزمهما ‏[‏يلزمها‏]‏ يَلْزَمُ مُحَمَّدًا لِأَنَّ عِنْدَهُ يَضْمَنُ الْفَاتِحُ وَإِنْ اعْتَرَضَ على الْفَتْحِ فعل ‏[‏فعلا‏]‏ اختياري ‏[‏اختياريا‏]‏ فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عن الْبَاقِي فَافْهَمْ ثُمَّ تَعَمُّدُ الْفَسَادِ يَثْبُتُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِعِلْمِهَا بِنِكَاحِ الصَّغِيرَةِ وَعِلْمِهَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِإِرْضَاعِهَا وَعَدَمِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ َرُورَةُ خَوْفِ الْهَلَاكِ على الصَّغِيرَةِ لو لم تُرْضِعْهَا وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا في أنها لم تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ مع يَمِينِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ بِدَعْوَى تَعَمُّدِ الْفَسَادِ يَدَّعِي عليها الضَّمَانَ وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا وَعَلَى هذا حُكْمُ الْمَهْرِ وَالرُّجُوعِ في الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ من الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَصَغِيرَتَيْنِ فارضعتهما الْكَبِيرَةُ‏.‏ فَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا حُرِّمْنَ عليه لِأَنَّهُمَا جميعا صَارَتَا بِنْتَيْنِ لِلْمُرْضِعَةِ فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ نِكَاحًا فَحُرِّمْنَ عليه وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ أَبَدًا سَوَاءٌ كان دخل بها أو لم يَدْخُلْ بها لِأَنَّهَا أُمُّ مَنْكُوحَتِهِ فَتَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ على الْبِنْتِ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَجْمَعَ بين الصَّغِيرَتَيْنِ نِكَاحًا أَبَدًا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ من الرَّضَاعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بإحداهما إنْ كان لم يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ من الرَّضَاعِ فَلَا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ على الْأُمِّ كما في النَّسَبِ وَإِنْ كان قد دخل بها لَا يَجُوزُ كما في النَّسَبِ وَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا على التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَدْ حَرُمَتْ الْكَبِيرَةُ مع الصَّغِيرَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ بِنْتًا لها فجعل ‏[‏فحصل‏]‏ الْجَمْعُ بين الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَبَانَتَا منه‏.‏

وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّمَا أَرْضَعَتْهَا بعدما بَانَتْ الْكَبِيرَةُ فلم يَصِرْ جَامِعًا لَكِنَّهَا رَبِيبَتُهُ من الرَّضَاعِ فَإِنْ كان قد دخل بِأُمِّهَا تَحْرُمُ عليه وَإِلَّا فَلَا وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ ذلك وَلَا الْجَمْعُ بين الصَّغِيرَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَثَلَاثَ صَبِيَّاتٍ فَأَرْضَعَتْهُنَّ على التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى حَرُمْنَ عليه جميعا لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ بِنْتًا لها فَحَصَلَ الْجَمْعُ بين الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَحُرِّمَتَا عليه ولما أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ فَقَدْ أَرْضَعَتْهَا وَالْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى مُبَانَتَانِ فَلَا يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْجَمْعِ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَلَكِنْ يُنْظَرُ إنْ كان قد دخل بِالْكَبِيرَةِ تَحْرُمُ عليه لِلْحَالِ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ وقد دخل بِأُمِّهَا وَإِنْ كان لم يَدْخُلْ بِأُمِّهَا لَا تَحْرُمُ عليه لِلْحَالِ حتى تُرْضِعَ الثَّالِثَةَ فإذا ارتضعت ‏[‏أرضعت‏]‏ الثَّالِثَةَ حُرِّمَتَا عليه لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَالْحُكْمُ في تَزَوُّجِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ ذلك وَالْجَمْعُ بين صَغِيرَتَيْنِ وَتَزَوُّجِ إحْدَى الصَّغَائِرِ ما ذَكَرْنَا‏.‏

وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَتَيْنِ وَكَبِيرَتَيْنِ فَعَمَدَتْ الْكَبِيرَتَانِ إلَى إحْدَى الصَّغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتَاهَا إحْدَاهُمَا بَعْدَ أُخْرَى ثُمَّ أَرْضَعَتَا الصَّغِيرَةَ الثَّانِيَةَ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بَانَتْ الْكَبِيرَتَانِ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى وَالصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَرْضَعَتَا الصَّغِيرَةَ الْأُولَى صَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ من الْكَبِيرَتَيْنِ أُمَّ امْرَأَتِهِ وَصَارَتْ الصَّغِيرَةُ بِنْتَ امْرَأَتِهِ فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ فَحُرِّمْنَ عليه فلما أَرْضَعَتَا الثَّانِيَةَ فَقَدْ أَرْضَعَتَاهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ فلم يَصِرْ جَامِعًا فَلَا تَحْرُمُ هذه الصَّغِيرَةُ بِسَبَبِ الْجَمْعِ وَلَكِنَّهَا ابْنَةُ مَنْكُوحَةٍ كانت له فَإِنْ كان لم يَدْخُلْ بها لَا تَحْرُمُ عليه وَإِنْ كان قد دخل بها تَحْرُمُ وَلَا يَجُوزُ له نِكَاحُ وَاحِدَةٍ من الْكَبِيرَتَيْنِ بَعْدَ ذلك بِحَالٍ وَالْأَمْرُ في جَوَازِ نِكَاحِ الصَّغِيرَةِ الْأُولَى على التَّفْصِيلِ الذي مَرَّ‏.‏

وَلَوْ كانت إحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الْأُخْرَى الصَّغِيرَتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى يُنْظَرُ إنْ كانت الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ بَدَأَتْ بِاَلَّتِي بَدَأَتْ بها الْكَبِيرَةُ الْأُولَى بَانَتْ الْكَبِيرَتَانِ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى وَالصَّغِيرَةُ الْأُخْرَى امْرَأَتُهُ وَإِنْ كانت بَدَأَتْ بِاَلَّتِي لم تَبْدَأْ بها الْأُولَى حُرِّمْنَ عليه جميعا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْأُولَى لَمَّا أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ بِنْتَهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بين الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَحُرِّمَتَا عليه فلما أَرْضَعَتْ الْأُخْرَى أَرْضَعَتْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فلم يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ لَكِنْ صَارَتْ الْأُخْرَى رَبِيبَتَهُ فَإِنْ كان لم يَدْخُلْ بِأُمِّهَا لَا تَحْرُمُ وَإِنْ كان قد دخل بها تَحْرُمُ فلما جَاءَتْ الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ مَنْكُوحَتِهِ فَحُرِّمَتْ عليه فلما أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُخْرَى فَقَدْ أَرْضَعَتْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَصَارَتْ رَبِيبَتَهُ فَلَا تَحْرُمُ إذَا كان لم يَدْخُلْ بِأُمِّهَا وَإِنْ كان قد دخل بِأُمِّهَا تَحْرُمُ وإذا كانت الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ بَدَأَتْ بِاَلَّتِي لم تَبْدَأْ بها الْكَبِيرَةُ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ بِنْتًا لها فَصَارَ جَامِعَهَا مع أُمِّهَا فَحُرِّمَتَا عليه كما حُرِّمَتْ الْكَبِيرَةُ الْأُولَى مع الصَّغِيرَةِ الْأُولَى فَحُرِّمْنَ جميعا

وَلَوْ كان تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ‏.‏

وَكَذَا إذَا أَرْضَعَتْ أُخْتُ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ أُخْتِ إمرأته وَالْجَمْعُ بين الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ بِنْتِ أُخْتِهَا لَا يَجُوزُ في الرَّضَاعِ كما لَا يَجُوزُ في النَّسَبِ وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا عَمَّةُ الْكَبِيرَةِ أو خَالَتُهَا لم تَبِنْ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ عَمَّةِ امْرَأَتِهِ أو بِنْتَ خَالَتِهَا وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْمَعَ بين امْرَأَةٍ وَبَيْنَ بِنْتِ عَمَّتِهَا أو بِنْتِ خَالَتِهَا في النَّسَبِ فَكَذَا في الرَّضَاعِ وَلَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَته ثَلَاثًا ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْمُطَلَّقَةُ قبل انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا امْرَأَةً له صَغِيرَةً بَانَتْ الصَّغِيرَةُ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتًا له فَحَصَلَ الْجَمْعُ في حَالِ الْعِدَّةِ وَالْجَمْعُ في حَالِ قِيَامِ الْعِدَّةِ كَالْجَمْعِ في حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ‏.‏

وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ وهو صَغِيرٌ امْرَأَةً لها لَبَنٌ فَارْتَدَّتْ وَبَانَتْ من الصَّبِيِّ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَحَبِلَتْ منه ثُمَّ أَرْضَعَتْ بِلَبَنِهَا ذلك الصَّبِيَّ الذي كان زَوْجَهَا حُرِّمَتْ على زَوْجِهَا الثَّانِي كَذَا رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ ذلك الصَّبِيَّ صَارَ إبنا لِزَوْجِهَا فَصَارَتْ هِيَ مَنْكُوحَةَ ابْنِهِ من الرَّضَاعِ فَحُرِّمَتْ عليه وَلَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ أُمَّ وَلَدِهِ مَمْلُوكًا له صَغِيرًا فَأَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ السَّيِّدِ حُرِّمَتْ على زَوْجِهَا وَعَلَى مَوْلَاهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ صَارَ إبنا لِزَوْجِهَا فَصَارَتْ هِيَ مَوْطُوءَةَ أبيه فَتَحْرُمُ عليه وَلَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّهَا مَنْكُوحَةُ إبنه وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً لها لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْهَا حُرِّمَتْ عليه لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْكُوحَةٍ كانت له فَتَحْرُمُ بِنِكَاحِ الْبِنْتِ وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

فصل بَيَانِ ما يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ

وَأَمَّا بَيَانُ ما يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ أَيْ يَظْهَرُ بِهِ فَالرَّضَاعُ يَظْهَرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِقْرَارُ وَالثَّانِي الْبَيِّنَةُ أَمَّا الْإِقْرَارُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا هِيَ أُخْتِي من الرَّضَاعِ أو أُمِّي من الرَّضَاعِ أو بِنْتِي من الرَّضَاعِ وَيَثْبُتُ على ذلك وَيَصْبِرُ عليه فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبُطْلَانِ ما يَمْلِكُ إبْطَالَهُ لِلْحَالِ فَيُصَدَّقُ فيه على نَفْسِهِ وإذا صُدِّقَ لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بها فَلَا يَكُونُ في إبْقَاءِ النِّكَاحِ فَائِدَةٌ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ صَدَّقَتْهُ أو كَذَّبَتْهُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ في زَعْمِهِ ثُمَّ إنْ كان قبل الدُّخُولِ بها فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَذَّبَتْهُ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُصَدِّقٌ على نَفْسِهِ لَا عليها بابطَالِ حَقِّهَا في الْمَهْرِ وإنه كان بَعْدَ الدُّخُولِ بها فَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ بابطَالِ حَقِّهَا فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ قال أَوْهَمْت أو أَخْطَأْت أو غَلِطْت أو نَسِيت أو كَذَبْت فَهُمَا على النِّكَاحِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُصَدَّقُ على الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ‏.‏

وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنه أَقَرَّ بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ كما لو أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ رَجَعَ بِأَنْ قال لِامْرَأَتِهِ كُنْت طَلَّقْتُك ثَلَاثًا ثُمَّ قال وهمت ‏[‏أوهمت‏]‏ وَالدَّلِيلُ عليه إنه لو قال لِأَمَتِهِ هذه امْرَأَتِي أو أُمِّي أو أُخْتِي أو ابْنَتِي ثُمَّ قال أَوْهَمْت إنه لَا يُصَدَّقُ وَتَعْتِقُ كَذَا هَهُنَا وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ فَقَوْلُهُ هذه أُخْتِي إخْبَارٌ منه أنها لم تَكُنْ زَوْجَتَهُ قَطُّ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عليه على التَّأْبِيدِ فإذا قال أَوْهَمْت صَارَ كَأَنَّهُ قال ما تَزَوَّجْتهَا ثُمَّ قال تَزَوَّجْتهَا وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَلَوْ قال ذلك يُقَرَّانِ على النِّكَاحِ كَذَا هذا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ كُنْت طَلَّقْتُك ثَلَاثًا إقْرَارٌ منه بِإِنْشَاءِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ من جِهَتِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إنْشَاءُ الطَّلَاقِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فإذا أَقَرَّ ثُمَّ رَجَعَ عنه لم يُصَدَّقْ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ لِأَمَتِهِ هذه أُمِّي أو ابْنَتِي لِأَنَّ ذلك لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمِلْكِ في الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أنها لو كانت أُمَّهُ أو ابْنَتَهُ حَقِيقَةً جَازَ دُخُولُهَا في مِلْكِهِ حتى يَقَعَ الْعِتْقُ عليها من جِهَتِهِ فَتَضَمَّنَ هذا اللَّفْظُ منه إنْشَاءَ الْعِتْقِ عليها فإذا قال أَوْهَمْت لَا يُصَدَّقُ كما لو قال هذه حُرَّةٌ ثُمَّ قال أَوْهَمْت‏.‏

وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بهذا قبل النِّكَاحِ فقال هذه أُخْتِي من الرَّضَاعِ أو أُمِّي أو ابْنَتِي وَأَصَرَّ على ذلك وَدَاوَمَ عليه لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَوْ تَزَوَّجَهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ قال وهمت ‏[‏أوهمت‏]‏ أو غَلِطْت جَازَ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ جَحَدَ الْإِقْرَارَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ على إقْرَارِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ فقال هذه أُمِّي من النَّسَبِ أو بنتي ‏[‏ابنتي‏]‏ أو أُخْتِي وَلَيْسَ لها نَسَبٌ مَعْرُوفٌ وإنها تَصْلُحُ بِنْتًا له أو أُمًّا له فإنه يسئل ‏[‏يسأل‏]‏ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ أَصَرَّ على ذلك وَثَبَتَ عليه يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِظُهُورِ النَّسَبِ بِإِقْرَارِهِ مع إصْرَارِهِ عليه‏.‏ وَإِنْ قال وهمت ‏[‏أوهمت‏]‏ أو أَخْطَأْت أو غَلِطْت يُصَدَّقُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان لها نَسَبٌ مَعْرُوفٌ أو لَا تَصْلُحُ أُمًّا أو بِنْتًا له لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ دَامَ على ذلك لِأَنَّهُ كَاذِبٌ في إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ وَالله أعلم‏.‏

وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ فَهِيَ أَنْ يَشْهَدَ على الرَّضَاعِ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَلَا يُقْبَلُ على الرَّضَاعِ أَقَلُّ من ذلك وَلَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ يُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَجْهُ قَوْلِهِ إن الشَّهَادَةَ على الرَّضَاعِ شَهَادَةٌ على عَوْرَةٍ إذْ لَا يُمْكِنُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ إلَى الثَّدْيِ وأنه عَوْرَةٌ فَيُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ النِّسَاءِ على الِانْفِرَادِ كَالْوِلَادَةِ‏.‏

وَلَنَا ما رَوَى مُحَمَّدٌ عن عِكْرِمَةَ بن خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا يُقْبَلُ على الرَّضَاعِ أَقَلُّ من شَاهِدَيْنِ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم يَظْهَرْ النَّكِيرُ من أَحَدٍ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ هذا باب مِمَّا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ فَلَا يُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ النِّسَاءِ على الِانْفِرَادِ كَالْمَالِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّ الرَّضَاعَ مِمَّا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ أَمَّا ثَدْيُ الْأَمَةِ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَجَانِبِ النَّظَرُ إلَيْهِ وَأَمَّا ثَدْيُ الْحُرَّةِ فَيَجُوزُ لِمَحَارِمِهَا النَّظَرُ إلَيْهِ فَثَبَتَ أَنَّ هذه شَهَادَةٌ مِمَّا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ فَلَا يُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ النِّسَاءِ على الِانْفِرَادِ لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِنَّ بِانْفِرَادِهِنَّ في أُصُولِ الشَّرْعِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ عَدَمِ اطِّلَاعِ الرِّجَالِ على الْمَشْهُودِ بِهِ فإذا جَازَ الِاطِّلَاعُ عليه في الْجُمْلَةِ لم تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ فإنه لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ فيها من الرِّجَالِ الِاطِّلَاعُ عليها فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْقَبُولِ‏.‏

وإذا شَهِدَتْ امْرَأَةٌ على الرَّضَاعِ فَالْأَفْضَلُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُفَارِقَهَا لِمَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ عُقْبَةَ بن الحرث ‏[‏الحارث‏]‏ قال تَزَوَّجْت بِنْتَ أبي إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فقالت إن ‏[‏إني‏]‏ أَرْضَعْتُكُمَا فَذَكَرَتْ ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «فَارِقْهَا فَقُلْت إنَّهَا امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَإِنَّهَا كَيْت وَكَيْت فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم كَيْفَ وقد قِيلَ»‏.‏

وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قال عُقْبَةُ فَذَكَرْت ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَأَعْرَضَ ثُمَّ ذَكَرْتُهُ فَأَعْرَضَ حتى قال في الثَّالِثَةِ أو الرَّابِعَةِ فَدَعْهَا إذًا وَقَوْلُهُ فَارِقْهَا أو فَدَعْهَا إذًا نَدْبٌ إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا بَلْ أَعْرَضَ وَلَوْ كان التَّفْرِيقُ وَاجِبًا لَمَا أَعْرَضَ فَدَلَّ قَوْلُهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «فَارِقْهَا على بَقَاءِ النِّكَاحِ»‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَزَعَمَتْ أنها أَرْضَعَتْهُمَا فَسَأَلَ الرَّجُلُ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه فقال هِيَ إمرأتك ليس أَحَدٌ يُحَرِّمُهَا عَلَيْك فَإِنْ تَنَزَّهْت فَهُوَ أَفْضَلُ وَسَأَلَ ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما فقال له مِثْلَ ذلك وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً في شَهَادَتِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هو الْمُفَارَقَةَ فإذا فَارَقَهَا فَالْأَفْضَلُ له أَنْ يُعْطِيَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ إنْ كان قبل الدُّخُولِ بها لِاحْتِمَالِ صِحَّةِ النِّكَاحِ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهَا في الشَّهَادَةِ وَالْأَفْضَلُ لها أَنْ لا تَأْخُذَ شيئا منه لِاحْتِمَالِ فَسَادِ النِّكَاحِ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهَا في الشَّهَادَةِ وَإِنْ كان بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْأَفْضَلُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا كَمَالَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِاحْتِمَالِ جَوَازِ النِّكَاحِ وَالْأَفْضَلُ لها أَنْ تَأْخُذَ الْأَقَلَّ من مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُسَمَّى وَلَا تَأْخُذُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ وَإِنْ لم يُطَلِّقْهَا فَهُوَ في سَعَةٍ من الْمُقَامِ مَعَهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ في الْحُكْمِ وَكَذَا إذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أو رَجُلَانِ غَيْرُ عَدْلَيْنِ أو رَجُلٌ وإمرأتان غَيْرُ عُدُولٍ لِمَا قُلْنَا‏.‏

وإذا شَهِدَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كان قبل الدُّخُولِ بها فَلَا شَيْءَ لها لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ النِّكَاحَ كان فَاسِدًا وَإِنْ كان بَعْدَ الدُّخُولِ بها يَجِبُ لها الْأَقَلُّ من الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى في سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أعلم‏.‏

كتاب النَّفَقَةِ

النَّفَقَةُ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ وَنَفَقَةُ الرَّقِيقِ وَنَفَقَةُ الْبَهَائِمِ وَالْجَمَادَاتِ أَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِهَا وفي بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا وَبَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ ما يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا في الذِّمَّةِ أَمَّا وُجُوبُهَا فَقَدْ دَلَّ عليه الْكتاب وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكتاب الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ‏}‏ أَيْ على قَدْرِ ما يَجِدُهُ أحدكم من السَّعَةِ وَالْمَقْدِرَةِ وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ لِأَنَّهَا لَا تَصِلُ إلَى النَّفَقَةِ إلَّا بِالْخُرُوجِ وَالِاكْتِسَابِ وفي حَرْفِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه ‏[‏أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ من وُجْدِكُمْ‏]‏ وهو نَصٌّ وَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ‏}‏ أَيْ لَا تُضَارُّوهُنَّ في الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ النَّفَقَةَ فَيَخْرُجْنَ أو لَا تُضَارُّوهُنَّ في الْمَسْكَنِ فَتَدْخُلُوا عَلَيْهِنَّ من غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ الْمَسْكَنَ فَيَخْرُجْنَ وَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ‏}‏ وَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ وَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ‏}‏ وَقَوْلُهُ عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ قِيلَ هو الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ‏.‏

وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال‏:‏ «اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عوار ‏[‏عوان‏]‏» لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شيئا وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ حَقٌّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يَأْذَنَّ في بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ في الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ كِسْوَتُهُنَّ وَرِزْقُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ قال ثَلَاثًا أَلَا هل بَلَّغْت وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لِمَا أَجْمَلَ الْحَقُّ في قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ فَكَانَ الْحَدِيثُ مُبَيِّنًا لِمَا في الْكتاب أَصْلُهُ‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال ما حَقُّ الْمَرْأَةِ على الزَّوْجِ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «يُطْعِمُهَا إذَا طَعِمَ وَيَكْسُوهَا إذَا كسى وَأَنْ لَا يَهْجُرَهَا إلَّا في الْمَبِيتِ وَلَا يَضْرِبَهَا وَلَا يُقَبِّحْ» وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِهِنْدٍ إمرأة أبي سُفْيَانَ‏:‏ «خُذِي من مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» وَلَوْ لم تَكُنْ النَّفَقَةُ وَاجِبَةً لم يُحْتَمَلْ أَنْ يَأْذَنَ لها بِالْأَخْذِ من غَيْرِ إذْنِهِ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على هذا وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ بِحَبْسِ النِّكَاحِ حَقًّا لِلزَّوْجِ مَمْنُوعَةٌ عن الِاكْتِسَابِ بِحَقِّهِ فَكَانَ نَفْعُ حَبْسِهَا عَائِدًا إلَيْهِ فَكَانَتْ كِفَايَتُهَا عليه كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم‏:‏ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَلِأَنَّهَا إذَا كانت مَحْبُوسَةً بحبسه مَمْنُوعَةٍ عن الْخُرُوجِ لِلْكَسْبِ بِحَقِّهِ فَلَوْ لم يَكُنْ كِفَايَتُهَا عليه لَهَلَكَتْ وَلِهَذَا جُعِلَ لِلْقَاضِي رِزْقٌ في بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِحَقِّهِمْ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِجِهَتِهِمْ مَمْنُوعٌ عن الْكَسْبِ فَجُعِلَتْ نَفَقَتُهُ في مَالِهِمْ وهو بَيْتُ الْمَالِ كَذَا هَهُنَا‏.‏